أدهش ابناء جيلنا الأديب الراحل حسن نجيلة بكتاباته الشيقة الممتعة عن بادية الكبابيش، وقد أرسل ليدرس أبناء الشيخ علي التوم ناظر الكبابيش، وكانت كتبه «ملامح من المجتمع السوداني» و«ذكرياتي في البادية» تنطبق عليها عبارة أطلقها أحد الأصدقاء وهو يحدثني عن كتاب الطيب صالح «منسي»، والعبارة أن الكتاب: wablenunput do نعم كنا في شبابنا ذاك المتعطش لكل إبداع، نقرأ بمتعة لا تدانى، ذكريات حسن نجيلة في تلك البوادي البعيدة عنا، وهل كان يعلم غير علام الغيوب ونحن في الثانويات أن زماننا القادم سيدفع بنا للتجوال في تلك البادية الملهمة. وقد انقضى على تجوال حسن نجيلة في تلك الفجاج أكثر من نصف قرن، والشيخ علي التوم ناظر الكبابيش كان من أعلام نظار القبائل الذين سارت بذكرهم الركبان، وقد خلفه في النظارة أبناؤه ثم أحفاده.. كان جيلنا يتعشق القراءة ويلتهم المعرفة التهام من به ظمأ ومسغبة، فلم نغادر ونحن في الثانويات سفراً ولا ورقة إلا انقضضنا عليها فاستوى عودنا الثقافي المعرفي ونحن على أعتاب الجامعة، فكان منا أفذاذ الأدب والعلوم ولم تضف الجامعة كثير شيء للشعراء من أبناء جيلنا محمد عبد الحي ومحمد المكي إبراهيم وعبد الرحيم أبو ذكرى والنور عثمان أبكر وفضل الله محمد وعلي عبد القيوم وكمال عووضة وسبدرات والأمين بلة ومحمد تاج السر علي سبيل المثال. وجد مقالي الأول «على مشارف أم بادر» ترحيباً مدهشاً من أهل تلك الديار، فاتصل بي العشرات من الذين أعرف والذين لا أعرف يشكرونني لحديثي عن صفاء نفوسهم وكرمهم، ونبهني أحد الأصدقاء من أم بادر إلى أنني نسيت أن أذكر الكواهلة ضمن ما ذكرت من قبائل.. وكان ذلك من باب السهو، فأم بادر نفسها وهي موضوع مقالي عاصمة قبيلة الكواهلة ومهد النظارة برغم انتشار هذه القبيلة في كافة أرجاء السودان، وهم أهل رجولة وكرم وإقدام ومنهم عبد الله ود جاد الله خال الإمام الصادق المهدي الذي كسر قلم ماكمايكل فسارت بجسارته الركبان. بانقضاء فترتي محافظاً لبارا والشكر أزجيه صادقاً لحكومة الإنقاذ التي أولتني ثقتها وتوسمت في شخصي الضعيف عرقاً يبذل من أجل الوطن.. بانقضاء فترتي تلك انتقلت إلى محافظات أخرى رشاد بجبال النوبة الشرقية والقطينة بالنيل الأبيض، غير أن بادية دار حامد والمجانين والكبابيش والكواهلة هي التي احتلت في الجوانح والذاكرة المساحة الأوفر.. فلقد نعمت فيها بالتسفار والتجوال البديع، وأيقنت أن السودان أثرى بلاد الدنيا بصفاء ونقاء أهله وبما حباه الله من أنعام ووديان وإنسان. وعن متعة التسفار في المهامه والمفازات الرحيبة يقول المتنبيء: «فكان مسير عيسهم ذميلا وسير الدمع إثرهم انهمالا كأن العيس كانت فوق جفني مناخات فلما ثرن سالا أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا ألفت ترحلي وجعلت أرضي قتودي والغريري الجلالا فما حاولت في أرض مقاما ولا أزمعت عن أرض زوالا على قلق كان الريح تحتي أوجهها جنوباً أو شمالا». ونحن نجد السير صوب أم بادر على ظهور العربات الفاخرة، تتداعى في الأذهان صور شعراء أماجد، جابوا تلك الفجاج على ظهور العيس ولم يكن في تجوالهم ذاك من يشتكي من تعب ورهق، إذ جادت قرائحهم بوصف بديع لتلك الديار، ولعل أعظم أولئك الشعراء المبدع محمد سعيد العباسي الذي لولا قصور إعلامنا لنصب أميراً لشعراء العربية في زمانه، فقد نطقت قصائده بلسان الفن وهذا ما يفرق بين شاعر وآخر، فالفن هو بهار القصيدة وعطرها الفواح وأريجها الأخاذ، فانظر وصفه المدهش لمليط وهو يجوب وديانها: «حباك مليط صوب العارض الغادي وجاد واديك ذا الجنات من واد فكم جلوت لنا من منظر عجب يشجي الخلي ويروي غلة الصادي أنسيتني برح آلامي وما أخذت منا المطايا بإيجاف وإيخاد كثبانك العفر ما أبهى مناظرها أنس لديّ وحشد رزق لمرتاد فباسق النخل ملء الطرف يلثم من ذيل السحاب بلا كد وإجهاد كأنه ورمال حوله ارتفعت أعلام جيش بناها فوق أطواد وأعين الماء تجري من جداولها صوارماً عرضوها غير أغماد والورق تهتف والأظلال وارفة والريح تدفع مياداً لمياد». وكل ما ذكر الشاعر العباسي مررنا به ونحن نتعجل المسير إلى أم بادر، غير أنا أنخنا الرحال للراحة في أم سعدون الناظر، بلدة ناظر دار حامد الراحل العبيد محمد تمساح، ذلك المحسن حيا ذكراه الغمام، وكنت أزمع عقد مؤتمر صلح بداره في نزاع على أرض تسمى «تفلنق» بين قبيلة «دار حامد» وقبيلة «كاجا»، وهي من قبائل النوبة التي قطنت في أطراف محافظة بارا منذ مئات السنين، وتحولت بحكم البيئة إلى قبائل أبّالة تصطرع على الماء والعشب شأنها شأن قبائل تلك البادية.. أخبرني بأنهم أعدوا العدة للمؤتمر وأن عشرة نياق خلاف البهائم الصغيرة جاهزة للضيافة، وأذكر أنني قلت له مازحاً: هل تنوي ضيافة سكان الصين.. رحم الله الناظر العبيد الذي أعانني على إدارة محافظة بارا، وأكرمني وأهله جوداً واحتفاءً ومشورة. خرجنا بعد الكرم الإلزامي المعروف ننشد أم بادر، والتلال تلك تقذف بركبنا إلى تلال أخرى والأرض من حولنا تستعيد شيئاً فشيئاً اخضرارها برغم جفاف الساحل الذي ضرب تلك الفجاج، وحراك رمالها حتى سدت أبواب ونوافذ البيوت، ففي زماننا هناك زمان التسعينيات، سكت الجفاف اإلا من آثاره المريعة وما أعقبها من نزوح صوب النيل.. أذكر رغم طول البين أهل تلك الديار التي احتلت في الذكرى مكاناً فسيحاً.. أهل طيبة وأم سعدون وأم كريدم والقليت والمزروب والحاج اللبن في غرب بارا وفي شرقها أهل جريجخ وأم قرفة وأم سيالة موطن ناصر محمد تمساح رئيس المحكمة، وأهل شرتو.. وكجمر والهشابة، وفي ديار الكبابيش أهل جبرة الشيخ وحمرة الوز وحمرة الشيخ التي عناها العباسي بقوله: «قل للغمام الأربد لا تعد غور السند وحي عني دارة الحمرا وقل لا تبعدي منازل يا برق أروت أمس غلة الصدي». شهدت في كل تلك الأنحاء البشر والحفاوة بالضيف، وشهدت الكرم في صوره التي حدثتنا عنها الكتب، وعرفت رجالاً كأن المتنبيء قد عناهم إذ يقول: «ما شيد الله من مجد لسالفهم إلا ونحن نراه فيهم الآنا». وعلى مشارف أم بادر مررنا بقرى وفرقان تحفها الأودية وتخفيها الأشجار حتى إذا انجلى عنها ثوب الاخضرار ألفيت الحرائر والصبايا عند الآبار «ينشلن» الماء في دلال الفطرة وعفاف النشأة وجمال الجآذر: «لبسن الوشي لا متجملات ولكن كي يصن به الجمالا وضفرن الغدائر لا لحسن ولكن خفن في الشعر الضلالا بدت قمراً ومالت خوط بان وفاحت عنبراً ورنت غزالا». ثم تبين ليس ببعيد عن ركبنا «أم بادر» محفوفة بظلالها الخضراء وواديها الموحي، فلأهلنا الكواهلة نزجي الشكر والعرفان وإن جاء متأخراً فقد عصفت بنا حياة المدينة وشغلتنا ترهاتها، ولكن جمر الذكرى ظل متقداً ويزداد ضراماً كلما انتزعنا أنفسنا وخلونا لاجترار ذلكم الماضي الجميل. -يتبع-