في أول لقاء معه، وبدعوة كريمة منه مبعثها اهتمامه بما يكتب في «الإضاءات» -كما قال- أهداني الأستاذ فيصل بن حامد معلاَّ السفير السعودي لدى السودان - مشكوراً- كتابه «ذات المحيطين.. جمهورية جنوب إفريقيا» الذي هو خلاصة بعثته الدبلوماسية وتجربته الحياتية والثقافية في أهم وأغنى بلد في إفريقيا ما بعد الاستقلال. الكتاب يقع في «250» صفحة من القطع المتوسط ويضم «18» فصلاً احتواها غلاف أنيق وزينها إخراج مميز وتنسيق جميل لفصل الصور والخرائط قامت عليه ابنته «ضفاف» التي اختارت للغلاف صورة جوية للِّسان الجنوب أفريقي الممتد بين المحيطين الأطلنطي غرباً والهندي شرقاً حيث تلتقي أمواجهما فتتلاطم حيناً وتتسالم وتعانق بعضها بعضاً في أحيان أخرى. فلا غرابة إذن ان اختار الكاتب لفاتحة مؤلفه آيتي «الرحمن»: مَرَج البحرين يلتقيان.. بينهما بَرزخ لا يبغيان». أول ما استوقفني في الكتاب هو عنوانه الرئيس: «ذات المحيطين». وهو اختيار يعيدك فوراً للذاكرة الثقافية التي يصدر عنها المؤلف -حتى لو كان من قبيل مخزون لا وعيه- يعيدك لقصة الصحابية البَرزة «ذات النطاقين» أسماء بنت أبي بكر الصديق، زوج الزبير بن العوام -رضي الله عنهم جميعاً- تلك السيدة الفدائية التي لعبت دور «التأمين» للنبي الأعظم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ولأبيها رفيق دربه ومصدقه الأول في حال «ثاني اثنين إذ هما في الغار» يتخفيان استعداداً للهجرة من مكة إلى المدينةالمنورة فكانت تقسم ثوبها إلى نطاقين، نطاق تستر به جسدها ونطاق تغطي به الطعام تلك الهجرة التي أصبحت بداية التاريخ -وليس «نهايته»- لدى العرب والمسلمين. وهي ذات المدينة التي شهدت ميلاد الدولة المحمدية وبُزوغ فجر الإسلام واندياح أنواره إلى أركان المعمورة كافة القريب منها والبعيد. ثم هي ذات المدينة التي رأت فيها عينا مؤلفنا النور عندما أطلق صرخة الميلاد في الثالث والعشرين من مارس عام 1956، ودرج في عتباتها الشريفة، قبل أن ينتقل إلى جدة ليلتحق بجامعة الملك عبد العزيز ليحصل على بكلاريوس الاقتصاد والإدارة، وينضم من ثم إلى وزارة الخارجية السعودية. وربما أهلته «مدينيته» للعمل في مواقع مميزة من حيث التحضر والتمدين، فعمل أولاً بالقنصلية العامة للمملكة في جنيف بسويسرا، ثم في بيروت، ومن بعد في باريس بالسفارة، قبل أن يكلف بمهمة المندوب الدائم لدى منظمة التربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» في ذات العاصمة الفرنسية. ومن ثم ينتقل إلى بريتوريا في جنوب أفريقيا في عام 2004 قائماً بالإعمال بالنيابة ويمضي بها ثلاث سنوات حتى أكتوبر 2007، كرسها للعمل الدبلوماسي والملاحظة والدراسة والكدح المعرفي الذي كانت خلاصته هذا السفر القيم الذي بين أيدينا «ذات المحيطين». والذي يمثل جهداً غير مسبوق في اللغة العربية في التوثيق والتعريف بتجربة الدولة الوليدة - جمهورية جنوب إفريقيا- تجربة الكفاح المرير من أجل الاستقلال من أشرس نظام استعمار استيطاني عرفته القارة، كفاح تسامى على الضغائن والغبائن واستخلص فضائل التسامح والتصالح والتعايش والوحدة الإنسانية من بين فرث ودم. اهتم المؤلف بإطلاع قارئه العربي على جميع مناحي الحياة في جنوب إفريقيا ومكوناتها الجغرافية والتاريخية والبشرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية باعتبارها تجربة إنسانية ذات خصوصية مقارنة مع تجارب الشعوب والجمهوريات الأخرى، وسنحاول في هذا الايجاز أن نعرض ما يعِّرف القاريء بأهم ما في هذا الكتاب المهم، الذي ما فتيء مؤلفه يلح على تواضع جهده، برغم كل ما بذل فيه من بحث وتوثيق وصياغة مترابطة بلغة سهلة ممتنعة، هي أقرب للغة الصحافة من تلك اللغة الموغلة في غريب الكلم والمفردات المعظلة. يقول السفير الأستاذ فيصل معلا في مقدمته القصيرة إن ما يفعله هو محاولة إسهام كانت مشوقة وممتعة للبحث والغور في أسبار هذه الجمهورية ذات الطبيعة الخلابة والسماء الدافئة والثقافات المتعددة، فجمهورية جنوب إفريقيا تعد إحدى الدول الفريدة في العالم، فهي تجمع بين خصائص العالم الأول المتحضر، الذي يتمتع بوجود جامعات ودور تعليم مختلفة ورفيعة المستوى، ومصانع متطورة ورعاية صحية غير مسبوقة، ومختلف البنيات الأساسية المتطورة، كما تحتوي على مظاهر المدنية الحديثة ممثلة في المدن الكبرى، مثل جوهانسبيرج وكيب تاون وغيرها، إضافة إلى الحياة البرية بمحمياتها المنتشرة في ربوع البلاد، حيث ترعى قوافل الزراف والنمور والأسود وغيرها دون رقيب. وفوق كل هذا وذاك فهي الدولة التي أنجبت الرئيس السابق نيلسون مانديلا، الذي يعد نموذجاً حياً في نضال الشعوب ضد القهر والاستعباد، كما أخرجت للعالم ديزموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام. ويعدد المؤلف الحائزين على هذه الجائزة الدولية الثمينة في مختلف التخصصات، ما يجعلها ربما الدولة الأولى في العالم من حيث عدد الحاصلين على هذه الجائزة بالنسبة لعدد سكانها، منهم الروائية الشهيرة نادين غورديمور جائزة نوبل للآداب 1991والروائي جيم كيوتزي، جائزة نوبل للآداب 2003، والجراح الشهير كريس بارنارد صاحب أول عملية قلب مفتوح الذي نال جائزة نوبل في علوم الطب والجراحة. وأشار المعلا في نهاية مقدمته إلى أن بلاداً أنجبت كل هؤلاء الأفذاذ وغيرهم فهي جديرة باجتياز التحديات، لكونها انتصرت على التحدي الأكبر، وهو استئصال الحكم العنصري البغيض. غداً نواصل الإضاءة على بعض أهم فصول الكتاب، ونبدأ بالجغرافيا والتاريخ إنشاء الله.