ليس في العالم العربي حاكم واحد جاء إلى الحكم عن طريق ديمقراطية حقيقية، بعضهم ورث الحكم عن أبيه، وبعضهم جاء إلى الحكم على ظهر دبابة، وبعضهم جاء عن طريق ديمقراطية الحزب الواحد التي تضع الرئيس على كرسيه عن طريق انتخابات مزورة، وهي الديمقراطيات التي يفوز فيها الرئيس في الانتخابات بنسبة 99% ويحكم البلاد لمدة ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر، مستخدماً الجيش وأجهزة الأمن وقانون الطوارئ لقمع شعبه. هؤلاء الرؤساء يمارسون أبشع أساليب القمع ضد شعوبهم. والشعوب تتحمل علي مضض، ثم تتململ وحين يزداد الضغط عليها تنفجر، والشباب الآن هم الذين يقودون الثورات وينتفضون ضد الظلم والقهر، وهم ينزلون إلى الشارع ويتجمعون في أحد الميادين الرئيسية (مثل ميدان التحرير في القاهرة وميدان التغيير أو شارع الستين في صنعاء)، هناك يعتصمون ويثورون ويهددون عروش الحكام الطغاة، هذا الشارع الذي يلجأ إليه الثوار رأيت أن أسميه بالشارع الأصيل في مقابل شارع آخر هو شارع مزيف أو شارع بديل. الشارع الأصيل هو شارع الثوار، وهو شارع الشرفاء والشجعان، هو شارع يهدر كالطوفان، مؤمن بقضيته ومستعد للتضحية في سبيلها، وهو يضم مئات الألوف بل الملايين من الشباب والثوار من مختلف الأعمار. قبضات أياديهم عالية تعانق السماء وصوتهم يهدر كالطوفان يردد شعارات تنادي بالحرية وإغلاق المعتقلات وإلغاء حالة الطوارئ وفتح السجون لإخراج المعتقلين. تبدأ مظاهراتهم بمطالب بسيطة، إلا أن النظام يستخدم أبشع الأساليب لقمعها، في البداية يتم التعامل مع المظاهرات بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، ثم يتطور الأمر ويندس رجال أمن الرئيس وأنصاره بين المتظاهرين ويستخدمون الهراوات ثم الرصاص الحي.. ويصعد القناصة فوق أسطح المنازل ويطلقون النار في كل اتجاه فيقع عشرات القتلى ومئات الجرحى. يرى شباب الثورة إخوانهم وهم يسقطون صرعى بنيران جنود الرئيس فيطير صوابهم، يحملون إخوانهم الموتى والجرحى ويشمون رائحة الدم فيطير عقلهم, ويصبح هناك موتى وجرحى لهم حق على زملائهم للأخذ بثأرهم وتطهير البلاد من حكم الطاغية, ويتغير مطلب الثوار من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بتنحي الرئيس..وينطلق الشعار المشهور «الشعب يريد إسقاط النظام». في لحظة تاريخية خرج شباب تونس إلى الشارع مطالبين بالحرية، وبعد أن كسروا حاجز الخوف وتعرضوا لبطش السلطة لم يعودوا يخافون من شيء واستمروا في التظاهر حتى اسقطوا حكم زين العابدين بن علي في مشهد تاريخي لم يكن يتصور أحد أن يحدث في هذا الزمن. وانتقلت شرارة الثورة إلى شباب مصر ثم شباب ليبيا، ثم انتقلت إلى اليمن ووصلت إلى سوريا... هؤلاء الشباب أصبحوا أكثر قوة من جلاديهم، وأصبح الواحد من هؤلاء الرؤساء في نهاية الأمر يستعطف الثوار لكي يمهلوه فترة عدة أشهر قبل أن يتنحى، فترة يتدبر فيها أمر تهريب ثروته إلى الخارج. في ثورة تونس كان هناك شارع واحد هو الشارع الأصيل، شارع الشباب الذين فجروا الثورة وحرروا بلادهم من رئيس مستبد، أما الشارع البديل فقد ظهر مع ثورة 25 يناير في مصر، هذا الشارع حشده نظام حسني مبارك في الشوارع القريبة من ميدان التحرير، وأصبحت كاميرات التلفزيون المصري تذهب وتصور هذه المظاهرات المؤيدة للرئيس، فهذا الشارع البديل هو اختراع مصري أصيل اخترعه نظام حسني مبارك ثم استخدمه بشكل واسع كل من معمر القذافي وعلى عبد الله صالح وبشار الأسد. شكل الشارع الأصيل تهديداً حقيقياً للرؤساء والحكام الطغاة والجبابرة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.. هؤلاء الرؤساء قضى كل منهم في الحكم ما بين ثلاثين إلى أربعين سنة أو أكثر، مارسوا خلالها الكذب والخداع والمراوغة من أجل التشبث بالكرسي، هم رؤساء الحزب الواحد في بلاد تدعي الديمقراطية، رؤساء استغلوا ثروات بلادهم لأنفسهم وأبنائهم وأقربائهم وعاثوا في الأرض فساداً، ونكلوا بكل من سولت له نفسه بالمعارضة أو الاحتجاج، آلاف الشرفاء قضوا في السجن سنوات طويلة دون محاكمة ودون ذنب جنوه، وآخرون ماتوا في سجونهم تحت التعذيب وعشرات بل مئات الألوف غيرهم اختفوا في ظروف غامضة ولم يجرؤ أحد على السؤال عنهم. كما شكل الشارع الأصيل تهديداً حقيقياً ومباشراً للطغاة ورؤساء التوريث فبدأوا يبحثون عن شارع بديل يواجهون به الشارع الأصيل، ويدعون أن لهم مؤيدين يطالبون ببقائهم في مقابل الذين يطالبونهم بالرحيل.. لقد استخدم الرؤساء لصناعة هذا الشارع البديل كل الألاعيب والحيل واستخدموا الترغيب والترهيب لحشد الناس في الشوارع والميادين باعتبارهم موالين للرئيس ومنادين ببقائه، استخدموا كل أجهزة الدولة من جيش وشرطة وأمن، وحشدوا القوات النظامية وغير النظامية بملابس مدنية وأجبروا طلاب وطالبات المدارس على ترك دراستهم والخروج إلى الشارع لتأييد الرئيس الطاغية ضد المنادين برحيله، ومارس هؤلاء أكبر حملة تضليل إذ عندما تشاهد القنوات الفضائية الرسمية في ليبيا واليمن وسوريا فإنك تري العجب. وتظن أنهم يتحدثون عن كوكب آخر غير بلادهم الغارقة في الدماء والدمار. إذن هذا الشارع البديل هو شارع الخائفين والمنافقين والخونة، الذين رضوا بالوقوف إلى جانب حكام مجرمين في مواجهة الشباب الثائر. هو شارع مزيف مؤيد للرئيس، إذ هل من الممكن أن يخرج مواطن حر في مظاهرة تأييد لرئيس ظالم طاغية حكم البلاد بالحديد والنار, وملأ السجون بالأبرياء وأستغل ثروات البلاد أبشع استغلال لمصلحته ومصلحة أبنائه وأقربائه.