ما يضمن عصمة اتفاق الدوحة من الانهيار وعدم لحاقه باتفاق أبوجا، بالإضافة إلى واقعية بنوده التي لامست مشكلات الإقليم وتناولت قضاياه الحقيقية، هو شخصية رئيس حركة التحرير والعدالة الدكتور التيجاني السيسي، فالرجل يتميز عن جميع قادة حركات دارفور الأخرى، فهو رجل مستنير وأظهر جدية شديدة في الوصول إلى سلام قوي واتفاق متماسك وحلول حقيقية، وذلك بحرصه الشديد على تجميع الحركات المسلحة في كيان واحد بعد توحيد رؤاها في رؤية واحدة، وحرصه أيضاً على إشراك أهل دارفور وعدم مصادرة حقهم وادعاء الوصاية والقوامة عليهم، وما يبعث الاطمئنان أيضاً أن الرجل يمتلك أفقاً سياسياً واسعاً، ورؤية ثاقبة مكنته من تشخيص أزمة دارفور وتوصيفها التوصيف الصحيح بأنها أزمة تنمية، وبالتالي لا يكون الحل إلا بتنمية الإقليم، والفرق بينه وبين قادة الحركات الأخرى خليل وعبد الواحد ومناوي واضح وجلي ولا يحتاج إلى تبيان، ومع ذلك فلا عاصم للاتفاق من الانهيار أمام عواصف ورعود المناخ السياسي السوداني المتقلب. زميل الدراسة (أوكيج) من جنوب السودان الذي ينهمك هذه الأيام في توفيق أوضاعه وحزم أمتعته للرحيل جنوباً، قال لي أنا في حيرة من أمري من الذين يبكون ويتباكون على انفصال الجنوب هذه الأيام.. (أوكيج) لديه قناعة تامة بأن دموع هؤلاء هي دموع تماسيح ليس إلا.. وهو يرى أن ترديد عبارة فقدان السودان لجزء عزيز منه هو حسرة على فوات ما في أرض الجنوب من موارد وخيرات، وليس حسرة على ذهاب الجنوبيين أصحاب الأرض وسكانها، وأضاف أن هذه هي قناعة معظم الجنوبيين وهو ما دفعهم إلى اختيار الانفصال لشعورهم بأن الشماليين لا يحبونهم، بل يحبون أرضهم ويطمعون في استغلال خيراتها، وقال إنه يتعجب من تبادل القوى السياسية اللوم فيما بينها بسبب الانفصال، واتهام كل طرف الآخر بالتفريط في الجنوب وتحميل معظم هذه القوى المؤتمر الوطني المسؤولية الكاملة عن ذلك، وكأن الجنوب عبارة عن أرض فضاء.. (أوكيج) يرى أن المسؤولية الكاملة عن انفصال الجنوب تقع على الجنوبيين وحدهم الذين صوتوا لخيار الانفصال بمحض اختيارهم بعد كفاح ونضال طويل من أجل هذا الهدف، بدأته أنانيا (1)، واختتمته الحركة الشعبية، وهو يرى أن (جون قرنق) لو كان حياً لوصل إلى نفس النتيجة وهي الانفصال، لذلك يقول (أوكيج) إن قادة الحركة الحاليين ولعلمهم بهذه الحقيقة، فقد أوفوا لقرنق بإقامة ضريح وتمثال له وإقامة مراسم الاحتفال ب(الاستقلال) في ضريحه، ثم تكريمه بوضع صورته على العملة باعتباره الأب الروحي الذي قاد ثورة (التحرير) والاستقلال عن الشمال، ولو كان لدى قادة الحركة أي شك في (انفصالية) قرنق لما فعلوا ما فعلوه، ولأصبحت سيرته طي النسيا. ويفسر (أوكيج) حديث قادة الحركة عن الوحدة في مناسبات عديدة طيلة الفترة الانتقالية بأنها كانت (شغل بتاع بوليتيكا)!! في الأخبار أن إسرائيل تدير محادثات عن طريق طرف ثالث مع القيادة السياسية في دولة جنوب السودان بغرض إبرام صفقة شاملة تقدم بموجبها تل أبيب مساعدات علمية وتكنولوجية وأمنية وتبادل التمثيل الدبلوماسي، وأن منظمات إسرائيلية غير حكومية بدأت بالفعل في إرسال معونات مختلفة إلى دولة جنوب السودان، وتستعد هذه المنظمات لوضع خطة طويلة الأجل في إطار مشروع يهدف إلى تقديم العون إلى شرائح النساء والأطفال المشردين وللاجئين حول العاصمة جوبا. أنا شخصياً لست مندهشاً إزاء حميمية العلاقة بين تل أبيب وجوبا وهذه الصفقة طبيعية جداً، وهي مجرد إمتداد لعلاقة قديمة بين الطرفين بدأت في الظلام أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، والجديد فيها الآن هي أنها خرجت إلى الضوء وإلى العلن بعد استكمال المشروع المشترك بينهما وهو قيام دولة جنوب السودان، فلا غرو أن تعقد هذه الصفقات والتي ستتلوها صفقات وصفقات و(كلو بتمنو)، وطبعاً سيكون السودان هو المستهدف الأول بهذه العلاقة.. فليس بعد (الانفصال ذنب). إقالة أو استقالة أياً ما كان الأمر، فإن خروج باقان من كابينة القيادة التنفيذية في جمهورية جنوب السودان مؤشر جيد إلى إمكانية تعافي العلاقات بين السودان والدولة الوليدة، ذلك أن الرجل مثّل طيلة الفترة الانتقالية(خميرة عكننة) وعامل توتير لهذه العلاقات، وكانت قاصمة ظهره تلك الحادثة التي شهدها كل من كان يتابع مراسم الاحتفال بالدولة الجديدة في التاسع من يوليو الماضي، حين شرع باقان في التمهيد لتقديم الرئيس البشير لمخاطبة الحضور، فقد أحس كل من تابع ذلك بأن الرجل كان ينتوي تقديم الرئيس بطريقة مسيئة وغير لائقة مما حدا برياك مشار بالتدخل في الوقت المناسب وحال بينه وبين ما يريد وارتجل كلمات طيبات مدح فيها الرئيس البشير ووصفه بالشجاعة والحكمة والوفاء بالوعد، ولم يعجب ذلك باقان الذي تعمد فصل التيار الكهربائي عن المنصة للحيلولة دون إكمال مشار (تقدمته) للرئيس التي نالت إعجاب الحضور، وكان هذا الموقف علامة فارقة بين شخصية مشار رجل الدولة المحترم الذي يعرف الأصول، وبين شخصية باقان أموم الرجل المتخلف ذو الروح العدائية الذي خرب العلاقة بين شريكي نيفاشا وتعدى أذاه وتخريبه المؤتمر الوطني فطال أيضاً الحركة الشعبية نفسها، وأدى إلى انشقاق لام أكول والذين معه واستقلالهم بحزب خاص بهم، وكذلك بقية الفصائل المنشقة عن الجيش الشعبي التي تقاتل حكومة الجنوب الآن بفضل رعونة باقان وتجنيه على كل من يخالفه الرأي، وآخر الذين أساء إليهم هو د. لوال دينق الذي وصفه باقان بالخيانة والعمالة للشمال واتهمه ببيع 48%من إنتاج النفط لشهر يوليو للشمال، واتضح أن ما قاله باقان في حق لوال لا أساس له من الصحة. إزاحة باقان عن الجهاز التنفيذي ستتيح الفرصة لإمكانية بناء علاقات جيدة بين البلدين ولكن لن تسلم هذه العلاقة من حماقات باقان ما دام متبوئاً لمنصبه التنظيمي أميناً عاماً للحركة الشعبية، ولن تستطيع الحركة الوصول إلى تفاهمات مع القوى الجنوبية المعارضة بوجوده في هذا المفصل المهم من جسد الحزب الحاكم في الدولة الوليدة.