الانتفاضات العربية التي اجتاحت بعض الدول وما زالت نيرانها تتأجج في سوريا واليمن وليبيا، أفرزت واقعاً سياسياً جديداً للتحول الديمقراطي الشعبي بواسطة الثورة، ووضعت رؤساء تلك الدول في حالة استنفار قصوى وإن لم تكن حالة فرار مثل الرئيس التونسي، فها هو المشهد السياسي العربي المتصاعد في كل الدول الملتهبة بواسطة ثورات شعوبها يضع رؤساءها أمام تجربة صعبة وتحدٍ لا مخرج منه إلا التغيير لا التقتيل. الشعب يريد تغيير النظام ومحاكمته: هكذا ارتفعت الأصوات في تونس فصارت العبارة الأشهر على طول الوطن العربي، وأفرغت هواء الظلم الذي يسكن القلوب العربية فهتفت به ملء الصوت «الشعب يريد تغيير النظام»، وتحول إلى «الشعب يريد محاكمة النظام». محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك أعادت للأذهان محاكمة الكثير من الرؤساء في تاريخ العالم، حيث قامت الثورات ضد العديد منهم وتمت محاكمتهم، فالرئيس البيرو ني السابق البرتو فو جيهوري الذي حكم البيرو من 1990 إلى 2000 حوكم بالسجن لمدة 25 سنة بعد إدانته بالفساد واستغلال النفوذ بعد تسليمه لقضاة بلاده بعد أن هرب إلى شيلي!! وذات البلاد شيلي شهدت محاكمة رئيسها السابق جوستو بيونشيه الذي جاء للحكم بانقلاب 1973م واستمر حتى 1990م، وهو الذي بدأ حكمه بقتل الرئيس المنتخب سلفادور الليندي واعتقل ببريطانيا عام 2002م، وتمت محاكمته بناء على قرار محكمة أسبانية وأدانته بتهم القتل والفساد وتوفي عام 2006م. وسلسلة الرؤساء الذين حاكمتهم شعوبهم بعد فسادهم مستمرة من أقصى القارة الأمريكية إلى القارة الآسيوية مروراً بالأفريقية، ففي تسليمه آسيا نجد في كمبوديا تقديم رؤساء الخمير الحمر الأربعة للمحاكمة في عام 2006م، وفي أندونسيا تم تقديم الرئيس الأسبق سوهارتو إلى المحاكمة بتهمة استغلال النفوذ والفساد ولكنه توفي قبل محاكمته لتدهور حالته الصحية!! وأوربا لا تخلو أيضاً من محاكمات للرؤساء، فتاريخها السياسي حافل منذ هتلر وموسوليني وقبلهما مروراً بأشهر الطغاة الروماني نيكولاي تشاوشيسكو الذي حكم لمدة 15 سنة وأطاح به الشعب بعد الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ضربت البلاد في 1989م، فحاول الهروب ولكن تم القبض عليه وقتل رمياً بالرصاص في محاكمة صورية في أحد ميادين رومانيا الرئيسية أمام الشعب!! وأما المنطقة العربية فأول حادثة لمحاكمة رئيس عربي كانت محاكمة الرئيس العراقي صدام حسين عقب الغزو الأمريكي على العراق ولكنها كانت بأجندة أجنبية. وخلاف بعض المحاكمات العسكرية لبعض القيادات التي حاولت القيام بعمليات انقلابية في بعض الدول العربية، لم يشهد التاريخ العربي محاكمة رئيس عربي بواسطة قضاة أو شعب إلا بعد قيام الثورات العربية التي تعصف الآن بالبلاد العربية ابتداء من تونس الخضراء التي شهدت محاكمة غيابية لرئيسها بن علي الذي هرب بعد اندلاع الثورة، بينما خضع الرئيس المصري حسني مبارك للمحاكمة كأول رئيس عربي يمثل أمام القانون في بلاده!! المحاكمات.. القانون والسياسة: الكثير من المراقبين القانونيين يرون أن هذه المحاكم التي تجرى للرؤساء تتخذ الطابع السياسي أكثر من القانوني، وذلك من سياق حيثياتها وتناولها في وسائل الإعلام، وتأثير الرأي العام على تكوين الإدانة المسبقة ولكن أيضاً يرون أن القانون الجنائي به نصوص يمكن أن تحاكم الرؤساء دون الحاجة إلى التأثير السياسي والضغوط الشعبية. والبعض يرون أنه إذا أراد المشرع معاقبة وتجريم الفساد السياسي، فعليه أن يصدر قانوناً يختص بذلك.. وبمحاكمة الرئيس المصري المخلوع مبارك، يكون باب الجدل قد انفتح أمام الجميع من القانونيين والسياسيين، بشأن التشريع والتنفيذ لمبدأ الثواب والعقاب ومحاسبة الرؤساء على أعمالهم. المعايير الدولية لمحاكمة الرؤساء: ليست هناك معايير محددة للمحاكمات، فلكل دولة قضاؤها والذي تفترض فيه العدالة والنزاهة، والتي سوف تطبق وفقاً للقوانين والتشريعات المختصة بجرائم الفساد وإهدار المال العام والقتل للمواطنين، رغم أن بعض المراقبين القانونيين يرون أن المعايير تستخدم بازدواجية أحياناً نتيجة لخضوعها للحسابات والمصالح السياسية، فالعالم العربي يشهد الآن تصميماً على محاكمة الرؤساء والوزراء بخلاف مذكرات الملاحقة الدولية التي تصدرها منظمات ومجلس الأمن ضد بعض الأشخاص، والبعض يخضعون لمثل تلك المذكرات القانونية والمحاكمات وفقاً للمعايير الدولية، والبعض الآخر يفلت منها مثلما فلت العديد من الوزراء والرؤساء في إسرائيل من المثول أمام القضاء أو حتى الاعتراف بالمذكرات التي رفعت في حقهم. الدولة الوحيدة التي يسمح قانونها بإقامة محكمة دولية ضد أجانب هي بلجيكا، إذ أصبحت مركزاً لهذا النوع من القضايا، ففي بروكسل يوليو 2000 أصدرت مذكرة لاعتقال وزير خارجية الكنغو عبد الله بيروديا لإطلاقه تصريحات عنصرية ضد قبيلة التوتسي.. والرئيس التشادي حسين هبري ألقيّ عليه القبض في السنغال 2005 وكان مطلوباً بحسب محكمة في بلجيكا!! الشعوب والبحث عن العدالة الانتقالية من وراء كل هذا المد الثوري وما يعرف بالربيع العربي للتغيير، كان من الواضح أن هذه الشعوب تبحث عن العدالة والتنمية والخروج من عنق زجاجة الوضع الاقتصادي المتأزم بفعل السياسات التي تخرجها حكوماتها، والسؤال الذي يطرح نفسه لدى المراقبين.. ثم ماذا بعد المحاكمات ومدى أهمية تحقيق العدالة في مراحل التحول السياسي لهذه الدول، وهل هذه المحاكمات تؤثر على عملية الإصلاح والتنمية؟! بعض المحللين السياسيين يرون أن ثورتي مصر وتونس قد رفعتا شعار الحرية والعدالة، ولابد من المرور ببوابة محاكمة الأنظمة السابقة فيهما لإرساء مبدأ الحرية والعدالة ولكن بالقانون، لأن استخدام العنف سيدخل البلدين إلى ذات المربع الأول قبل الثورات وحبسها في زجاجة الظلم والتسلط والجبروت. وهنا لابد من توفير كافة ظروف المحاكمات العادلة من حق الدفاع للمتهم، والمحكمة المهيأة لذلك، والقضاة البعيدين عن تأثير الإعلام وضغط الشارع، وفكرة العدالة الانتقالية تحددها فترة المحاكمات التي سوف تجرى في هذه البلاد للدخول إلى مرحلة الدستور الجديد والقوانين المقننة لملامح دولة جديدة تحمل في بنودها قوانين وتشريعات عادلة تحاكم كل من يفسد أو ينهب أموال الشعب، وأن هذه الفكرة للعدالة الانتقالية لابد من تطورها لاستكمال حركة البناء لهذه الدول بدلاً من التركيز على المحاكمات وقفل باب التنمية والإصلاح والتطور، إذ أن هناك خيطاً رفيعاً ما بين إجراء المحاكمات التي يريدها الشعوب العربية والرغبة في الإصلاح والإسراع في عمليات البناء والإصلاح الساسي. وتبقى الشعوب العربية في انتظار تطبيق العدالة الانتقالية لتحقيق مبدأ المحاسبة والمحاكمة، ومبدأ سيادة القانون وعدم الإفلات من العقاب.. فهل تجد الشعوب في تطبيق العدالة مبتغاها أم تسرق منا مرة أخرى بواسطة المعتدين!!