ونأتي إلى الأحزاب السودانية.. وحتى لا نتوه في دروب وممرات.. وحتى لا تنبهم أمامنا الدروب.. فالنتحدث مباشر عن أحزاب تقليدية راسخة عميقة الجذور في تربة الوطن الجميل.. تاريخياً كانت وما زالت الأحزاب هي أحزاب الأمة.. المرتكزة على طائفة الأنصار.. والاتحاديين المرتكزين أو المنتسبين إلى ذاك النفر من المثقفين الذين كانوا على علاقة وثيقة بمصر.. بل كانوا ينادون بوحدة مصرية سودانية.. ولاحقاً انصهرت معهم طائفة الختمية.. ليصبح الحزب الاتحادي الديمقراطي بعد الائتلاف ثم الاندماج.. والحزب الشيوعي السوداني والذي كان إبان فترة الاستعمار هو الجبهة المعادية للاستعمار.. وحضور خجول وظهور باهت للأخوان المسلمين. هذه هي الأحزاب التي كانت وما زالت.. وكل الذي يهمنا من أمرها هو ولاء والتصاق جماهيرها بها.. وكيف كان الالتزام الحزبي قوياً وصارماً.. وصادقاً بل عنيفاً وشرساً.. يحمل عضو الحزب عضوية الحزب في تجاويف صدره وفي آخر بوصة من سويداء قلبه.. لا يجد حرجاً ولا وجلاً وهو يدافع عن حزبه عند كل ملمة كل جمع.. كل محفل.. كان أكثر الأعضاء شراسة هم أعضاء حزب الأمة.. الذي دخل يوماً الانتخابات البرلمانية وجماهيره تهتف إما الفوز وإما الموت.. لقد كان العضو يظل عضواً في حزبه لا تبدله نازلة ولا تخلخل ولاءه محنة يولد مثلاً اتحادياً يعيش اتحادياً ويموت اتحادياً.. أو يظل على عهده أنصارياً حتى يهال على قبره التراب.. كما أن الأحزاب لم تكن تعرف تلك الهجرات والتحول المجافي لكل الأعراف الحزبية والديمقراطية.. من حزب إلى آخر.. تمضي السنون وتكر الدهور ولا تكاد تسمع بمواطن واحد أعلن انسلاخه من حزبه ملتحقاً بحزب آخر.. هذا أمر كان مستغرباً بل مستهجناً.. إن لم يكن مستحيلاً في تلك الأيام.. وتتبدل الأيام.. وتدور ساعة الأزمنة.. ويأتي حزب الأحبة من الإنقاذيين.. وتحت ظلال السلطة.. وفي كنف الحكم.. وفي دهاليز القصور والوزارات يولد حزبهم المؤتمر الوطني.. ويأتي ومعه عجيبة من عجائب الدنيا.. وهي اكتساحه لساحة الجماهير عن بكرة أبيها وسحبه أرصدة هائلة من عضوية الأحزاب.. ليتمدد وتنفرد أجنحته.. لتحتوي الملايين إثر الهجرات الجماعية والتي تغادر أحزابها ميممة شطر المؤتمر الوطني.. ويا له من شطر مكتنز بالحليب.. نعم يأتي المؤتمر الوطني وتأتي معه البدع والغرائب والعجائب.. لا يكاد يمضي يوم إلا ونسمع بأن مجموعة من الأمة قد هجرت الديار وشدت الرحال إلى حياض المؤتمر الوطني ثم لا يصبح صبح ولا يمسي ليل إلا ودكتور نافع يستقبل الآلاف من المنسلخين من الاتحادي مبايعين المؤتمر الوطني.. و«طوالي» نتذكر البعث نتذكر اللجان الثورية.. نتذكر صدام.. ونتذكر مبارك.. ونتذكر «معمر».. ونقول إن الناس لا يتعلمون.. هؤلاء.. لا خير فيهم.. هؤلاء المرتحلون من أحزابهم إلى المؤتمر الوطني.. ليسوا ب«ناس بأس وشدايد».. صدقوني أنهم ما نزحوا إلى دياركم إلا بحثاً عن الماء والكلأ.. إنهم أول من يغادرون السفينة بل أو القافزين منها إن سمعوا فقط صوت «شق» فيها.. وإلا.. وهذا هو موضوعنا الذي قدمنا له كل هذه المقدمات وأنفقنا فيه كل هذه الكلمات.. وإلا أين هم الآن.. أعني حتى عضويتكم الأصلية الملتزمة والتي كانت عند فجر الإنقاذ مصادمة مدافعة.. بل مهاجمة.. ودعكم من الذين توافدوا عليكم طمعاً في جاه ومال وسلطان.. أين هم في كل المواقع والمحافل.. وهل تجدون أمثلة.. نعم.. هاكم.. في صالونات الأعراس.. وفي «خيم» المآتم في الحافلات.. في الطرقات.. في أي جمع تجمعنا بهم المجامع.. تنطلق هذه الأيام.. الألسنة و «الونسة» «علناً» وبالصوت العالي عن بؤس الحياة.. عن الإخفاقات الحكومية.. عن الفساد.. عن شح المال.. عن انقطاع الماء والتيار.. عن المحسوبية.. وأحياناً نتحدث عن الإشاعات وأحياناً نستمتع بتضخيم حتى هذه الاشاعات.. وأحياناً نكيل سباباً كاسحاً للإنقاذ.. و «حكمة الله» يشترك كل فرد في «بيت العرس» وكل «واحد» في صيوان العزاء.. وكل راكب في الحافلة.. ولا صوت واحد.. ينتمي إلى الحكومة ليدافع أو ليوقفنا عند حدنا.. حتى نتساءل في دهشة.. إنتو ناس الحكومة ديل وين؟؟