مات الشاعر الفنان الجيلي محمد صالح، مات ورحل وراح في حال سبيل الأولين والآخرين، لكن الأفئدة ستظل مفعمة بكلماته التي ارتوت لحناً جميلاً وتغنى بها مطربون كبار، من أمثال فناننا المبدع محمد وردي، والراحل المقيم عثمان حسين، ولا زالت كلماته تجري مجرى الدم في شرايين الغناء السوداني، تضخ فيه حيوية وألقاً ونبلاً شجي الملامح، قوي الصفات، خاصة في أكثر أغنياته تأثيراً على القلوب.. «ماضي الذكريات» التي صدح بها الفنان الكبير عثمان مصطفى، وكانت واحدة من تأشيرات دخوله إلى عالم الكبار.. ودنيا الطرب الأصيل. مات الجيلي محمد صالح، ولا زلتُ أذكر طلته البهية عليّ في مكتبي ب «آخر لحظة» قبل سنوات قليلة أشعث أغبر وصاحب ابتسامة كانت جزءاً من وجهه، وأحسب أنها ظلت كذلك إلى أن اختاره الله إلى جواره. جاءني الشاعر الرقيق نهار يوم قائظ وهويضحك: ويقول لي: «أنا قدامك حي» فأرد عليه ب: «المهم إنك تُرزق» ونكمل معاً ضحكة لا زالت أصداؤها تتردد في داخلي، لنبدأ حديثاً طويلاً تطرق للعام والخاص بدأه بسؤال ساخر عندما جلسنا لنرتشف كوبين صغيرين من الشاي: «شفت العملتو فيني أختك..؟» وكان يقصد ما جرى به قلم شقيقتنا الأستاذة منى أبوالعزائم في زاوية يومية راتبة كانت تنشر لها بصحيفة «الوفاق» الغراء وقرنت اسمه بكلمة «المرحوم» لتقوم دنيا محبيه ولا تقعد بحثاً عنه والتأكد من أنه لا يزال «يدجُ» بقدميه ويدب، ويصول ويجول يحمل حقيبته المرتبطة به وبكتفه مثل شارات العسكر والجند، والتي تحوي بعضاً مما كتبه شعراً كان يقول إن أكثر من ستين ديواناً هي حصيلته في الحياة، غير المسرحيات التي تقارب العشرين. مات الشاعر الرقيق الذي عاش كتاباً مفتوحاً وديواناً مشرع الأبواب لمن أراد أن يروي ظمأه من بحور الشعر العاطفي.. إذ لم يكن أستاذ الأجيال الجيلي محمد صالح يخبئ شيئاً داخل قلبه أو كلمة تحت لسانه، وأحسب أن هذا هو حاله منذ أن أرتبط تاريخه ومولده ب «جلاس» في المديرية الشمالية، ثم عمله بالسكة الحديد التي تنقل بسبب العمل فيها بين مديريات السودان المختلفة ومدنه القائمة على مسار الخطوط الحديدية ليسجل رقماً قياسياً في الزواج ولا أذكر عدد زيجاته التي قالها لكنها لا تقل عن التسع أو العشر زيجات، وقد شكلت كل امرأة وزوجة منهن حضوراً قوياً في داخله أثمر شعراً ونبضاً ولحناً وحياة. عاش الجيلي محمد صالح ضارباً الهم بالفرح، والحزن بالإبتسامة.. وكان يضحك عندما انتشرت شائعة موته وملأت الآفاق.. لكنه هذه المرة مات. رحم الله الشاعر الفنان الجيلي محمد صالح رحمة واسعة وغفر له ذنبه وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.. آمين.