1 هل يصعب الحديث عن الغناء الجميل في رهبة الموت؟ وهل تخدش الأهازيج والألحان والأنغام من كبريائه؟ هل يحرّم الحزن الطرب أم يشجي الطرب الحزن فيحوله الى حزن نبيل بعد رحيل الشاعر الجيلي محمد صالح شاعر الوطن الكبير؟ إن الحزن هنا يقف مغنيا في سرادق الغناء مرددا: الحبيّب قلبو طيب العوازل ضللوه. 2 هل النشر عن الشاعر الكبير الجيلي محمد صالح يأتي بمعني إندياح الشذى وضوع العبير كما في شذى زهر للعقاد أم يأتي بمعنى نشر الرثاء في الصحف وتسويدها بدموع الفقد الجلل ، أم أن النشر هنا يقرر اعادة هندسة حروفه وإتفاقها على التحول الى «نشور » يقربك من المآلات الأخيرة لنا كبشر يدركون بأن لكل بداية نهاية وأن نهاية الشعراء تتحدى معنى النهاية لتتحول الى خلود يذكرك بأنه في البدء كان الكلم وأن «كان» هذه تحرر الفعل الماضي من طائلة مصيره النحوي وتدل على كينونة الشاعر لا يحجبها الموت وإن تخطف الردى الجسد لأن الشاعر الخالد لا يتقيد غيابه أو حضوره بعالم النحو إلا الذي يبقى من النحو حاضرا ومستقبلا. 3 جئت الى الوطن ومن عادتي عندما آتي أقابل إبن عمي الشاعر الراحل الجيلي محمد صالح . إنه لا يرهقك في البحث عنه من شارع الى شارع فهو إنسان سيال متدفق ليس من ناحية إبداعه الفني فحسب وإنما من خلال حركته الدائبة عبر المدينة ممارسل لحالة متفردة من القلق المبدع.إن حركة الجيلي تلك هي جزء من طريقته الخاصة في تأمل الوطن والناس والظواهر ليكوّن منها أناشيد خاصة يضعها في حقيبة صغيرة هى جزء من حركته عبر المدينة مع عصاه. يبدو لك الجيلي محمد صالح غمامة متحركة مسكونة بالإبداع وحب العالم والناس أينما تمطر يأتيك خراجها . ومن بيت الى بيت يهتم الراحل الكبير بصلة الرحم وهو هنا متدفق الذاكرة المشحونة بتفاصيل الزمن الجميل . يحدثك عن الأسر السودانية وصلاتها ورموزها وعن مدن البلاد وذكرياته فيها وعن قرية الأركي من أعمال مركز مروي بالمديرية الشمالية التي ولد فيها حوالى عام 1931م وهناك درس على يد عمه والدنا الشيخ الذاكر القرآن الكريم في خلوة شيخنا العجيمي بقرية البرصة . ويبدو أن الجيلي محمد صالح شرب مياه هذا الوطن عبر حركة تنقل والده العم محمد صالح الفكي في منظومة سكك حديد السودان ومن بعد ذلك حينما عمل الجيلي في حركة النقل بين شطري الوطن وقتئذ.لقد نشأ الشاعر الكبير نشأة قرآنية فنية بانت ملامحها عبر مراحله الدراسية في الخلوة والكتّاب والمتوسط . إن خارطة الوطن إذن هي وجدان هذا الشاعر الكبير ومن تفاصيل هذه الخارطة تجلى شكل إبداعه الغنائي معبرا عن طموحاته وحالات هيامه ومن في الوطن لم يترنم بماضي الذكريات والحبيّب قلبو طيب لكل من عثمان مصطفى ووردي وأغنية خصام العيد حرام لصلاح مصطفى وفيها إيه لو جيتا فايت بالدرب وتقول سلام التي لحنها الموسيقار عبدالله عربي للفنان عثمان مصطفى . ويقيني أن مكتبة الإذاعة السودانية تحفل بعددد هائل من إبداعات الشاعر الراحل 4 حركة الشاعر الراحل عبر الوطن أهلته لضخ رحيق إبداعي كبير في زمن كانت الأغنية السودانية تمارس إثبات نفسها مع تطور كبير شهدته ألاغنية العربية وقتها في مصر وسوريا والعراق وبيروت وهو من جيل أبو قطاطي وإسماعيل حسن وعبد الله النجيب وبازرعة والطاهر إبراهيم وللشاعر الكبير رصيد كبير من الحلقات الإذاعية والتلفزيونية وهو مؤرخ عاصر ميلاد الإذاعة السودانية وإنطلاق العديد من الغنائيات الخالدة منها والتي عبرت عن العاطفة الصادقة المشبوبة لهذه الامة وبينت مقاطع قيمها وتجلياته التراثية والأخلاقية. 5 هذه المرة لم يقابلني الجيلي محمد صالح ليحدثني عن أزمنة الغناء الجليل في السودان ...عن شاعرية حد الزين وبركات الأولياء والصالحين في منطقتنا ووطنا وعن أحوال هيامه و تجلياته العارمة ملاكا غنائيا فقيرا غنيا ضحوكا قريب الدمعة نظيف القلب الذي يحمل فيه جمالا وإبداعا بحجم هذا العالم. في سرادق عزائه الحاشد جلست مكلوما أتلقى العزاء وعندها خرج الراحل من بيته بهدوء شديد كنعش نحو بيت آخر تسكنه الطمأنينة وتحف به مظاهر القبول. كان نعشه أبيضا ناصعا كلوزة غصن متفتحة نحو مسجد الحي ليصلي عليه جمع غفير لينقل بعد ذلك على متاع بسيط ليدفن الى جوار رفيقة دربه إبنة عمه آمنه عمر الفكي وإبنته الراحلة عواطف بمقابر الصحافة .. تذكرت حينها والثرى يضم ذلك الرجل المبدع كيف أنه كان عندما يحصل على أربعين جنيها أو نحوها ينادي صحبه بأنه قد أصاب مالا لبدا ويدعوهم لمشاركته فيه الى أن ينتهي . 6 من ديوان «مزامير » للشاعر الكبير أطلق ترنيمة حزن ودعاء الى الخالق الجليل لينعم عليه بالراحة في مستقره الأخير ويتقبله قبولا حسنا ويقينا من حسرات الحزن عليه فلا يظل حزنا ضريرا مهلكا ولكنه حزن المؤمنين القانعين بأن من لون وجدان الأمة بإبداعه وفنه يستحق منا صادق الدعاء ومن الخالق الجليل صادق القبول.