الصدفة وحدها أو الأقدار، إذا كانت هناك أقدار يمكن أن توصف ب «الصحفية»، جعلتني شاهداً ميدانياً على واحدة من هجات 11سبتمبر الثلاث.. رويتها من قبل، ولكن لا بأس من التذكير بها مع حلول هذه الذكرى العاشرة لأحداث سبتمبر التي كانت علامة فارقة، في الدبلوماسية والسياسة والاقتصاد على المستويين الأمريكي والدولي، بين ما قبلها وما بعدها، كنت يومها أقود سيارتي من مقر سكننا في واشنطن دي سي، شارع وسكانسن في تلك البناية العتيقة المواجهة ل «الناشونال كاثيدرال» أكبر وأهم كتدارئية مسيحية على المستوى القومي الأمريكي تقام فيها كل الصلوات والمآتم الرسمية، إذ لا تبعد إلا دقائق معدودة بالسيارة من البيت الأبيض والكونغرس ومقار الوزارات والإدارات الرسمية الأمريكية. كان إلى جانبي، ونحن نعبر ذلك الجسر عبر نهر «البوتوميك» باتجاه ضاحية فرجينيا حيث «البنتاغون» مقر وزارة الدفاع الأمريكية، أخي وصديقي ورفيقي في السكن الدكتور خالد حسن إدريس الذي سبقني إلى الولاياتالمتحدة بسنوات عديدة، وبينما اعتلينا منتصف ذلك الجسر بدأنا نشاهد سحابة دخان أخذت تتصاعد بشكل مفاجئ في ناحية البنتاغون، شدنا المنظر وأخذنا نتساءل ونحاول تقدير أين تكون سحابة الدخان المتصاعدة تلك والتي اتخذت بعد قليل شكل الحريق، إذ بدأت نيران اللهب تظهر وتكبر كلما اقتربنا من نهاية الجسر. لم يتسن لنا بحكم نوافذ السيارة المغلقة بإحكام أن نسمع صوت الضربة أو دوي انفجار الطائرة التي استهدفت البنتاغون، وفور عبورنا الجسر والمقابر التذكارية ال MEMORIAL CEMETERY، حيث يدفن شهداء الحروب الأمريكية وعظماء الساسة والقادة الأمريكيين في ذلك المدفن الأخضر القريب من الوزارة- لحكمة يعلمها الأمريكيون- فور عبورنا واقترابنا من مبنى الوزارة الذي يتوسط الشوارع المتقاطعة التي تؤدي إلى كل نواحي فرجينيا وواشنطن الكبرى، رأينا ذلك المنظر المروع الذي لم يخطر لنا على بال، رجال البنتاغون وموظفوه وخبراؤه الأشاوس ينطلقون لا يلوون على شيء من داخل المبنى، الذي بدأ يحترق، إلى خارجه، أوقفتنا الشرطة فجأة مع بعض السيارات القليلة التي كانت تسير في ذلك الاتجاه بعد أن مدوا شريطاً للتحذير عبر الشارع- YELLOW TAPE- وطلبوا منا اتخاذ اتجاه آخر للتوغل في فيرجينيا يبتعد قليلاً عن البنتاغون موقع الحدث، وحتى تلك اللحظة لم نكن نفهم بالضبط ما يجري حولنا، قدرنا أن الأمر يتعلق بحريق مفاجئ نتيجة انفجار ذخيرة أو سقوط مروحية لعطل فني أو تماس كهربائي أسفل جزء من المبنى، فلم يكن لا نحن ولا غيرنا، حتى من صناع القرار الأمريكي يطوف بذهنهم أو يتخيلوا مجرد خيال، أن يكون البنتاغون عرضة لهجوم بطائرة مدنية أو حتى عسكرية أو هجوم من أي نوع على هذا النحو المفاجئ. المهم وصلنا إلى مقصدنا في فيرجينيا، وكان مقراً لإحدى شركات الاتصال الكبرى، وهناك كانت تنتظرنا مفاجأة أخرى لا تقل خطراً، كان كل الناس في مقر الشركة يتحلقون حول التلفزيون الكبير المنصوب في القاعة الرئيسية يشاهدون ما جرى وما لايزال يجري في وحول أعلى وأهم مبنيين في عاصمة المال والتجارة الأمريكيةنيويورك، حيث كان الهجوم الذي دمر البرجين التوأمين لمركز التجارة العالمي المعروفين بTHE TWIN TOWERS. كانت الصدمة كبيرة، فاقت كل التوقعات ها هما مركزا القوة والمال في أمريكا تهاجمان في عقر دارها، هكذا بدون مقدمات ولا إنذارات، وهاهي الأخبار تترى عن طائرة ثالثة كانت في طريقها لمهاجمة البيت الأبيض ذاته.. يا إلهي ماذا يجري هنا.. هل حان قيام الساعة.. هل انشق القمر وطويت الأرض.. هل هذا هو اليوم الموعود.. أم هي حرب عالمية ثالثة بدأت من الولاياتالمتحدة.. يا إلهي لا نستطيع أن نفهم.. من يقف وراء كل هذا الذي تشاهده عيوننا ولا نكاد نصدقه .. هل هناك من هو أقوى من الولايات Great Amenia- ليتجرأ على مهاجمتها على هذا النحو .. أسئلة حيرى ومشفقة كانت تدور كلها على ألسنة الناس في تلك اللحظات التي عشناها في مبنى الاتصالات القريب من مقر وزارة الدفاع البنتاغون، ولم يكن بإمكاننا العودة فوراً باتجاه منزلنا في «دي سي» عبر النهر فالتحقنا بأخينا وصديقنا أحمد ميرغني نبق الذي يسكن في فيرجينيا غير بعيد من حيث كنا، والتحق بنا سودانيون قليلون يسكون المنطقة أو تقطعت بهم السبل، فأعد لنا أحمد طعاماً سريعاً يسد جوعتنا تناولناه دون أن نذوق له طعماً، فالأنظار والأفئدة والعقول والحواس كلها كانت تتابع الأحداث المشتعلة والإيقاع المتسارع في كل الاتجاهات، أعداد القتلى التي تتزايد، محاولات النجاة الفاشلة والناجحة، قدرات الدولة المجندة في كل اتجاه لمحاولة محاصرة الحريق، إجراءات الأمن القومي لتأمين الرئيس ج. دبليو. بوش الذي كان لحظتها يزور إحدى المدارس في جنوب البلاد وقضت تلك الإجراءات أن يختفي حتى لا يكون هو أو طائرته هدفاً للمعتدين، نائبه ديك شيني وبعض مسؤولي الإدارة و وزرائها ينزلون إلى ملجأ تحت البيت الأبيض، نسمع عنه للمرة الأولى تفادياً لأي هجوم مفاجئ، كان سيقع فعلاً لولا جرأة ومقاومة ركاب الطائرة التي وجهها الخاطفون إلى واشنطن فسقطت في بنسلفانيا. لم تمر سوى ساعات قليلة حتى بدأت تتقاطر الأنباء الرسمية - وغير الرسمية أيضاً- باتهام أسامة بن لادن وجماعته، أو ما يسمى بتنظيم «القاعدة» بأنها كانت وراء تلك الأحداث واختطاف الطائرات المدنية وتحويلها إلى قنابل طائرة ومهاجمة المباني الاستراتيجية، كان اتهاماً مدهشاً، صدقه البعض و تشكك فيه أخرون ورأى فيه فريق ثالث جزءً من الحقيقة وليست كل الحقيقة، وأنا من ناحيتي - كمراقب- كنت إميل ولا أزال إلى هذا التقدير الأخير، لأنه أقرب للعقل ويشبه الواقع، خصوصاً لمن عاش تلك الأحداث ورأى حجم الدمار والطريقة التي جرى بها التنفيذ من حيث التقنية العالية والحسابات الدقيقة المضبوطة، خصوصاً والهجوم على مركز التجارة لم يكن هو الأول من نوعه، بل سبقه هجوم آخر قبل سنوات قليلة اتهم فيه الشيخ عمر عبد الرحمن وبعض أنصاره من الجماعات الإسلامية، وتم في النهاية اكتشاف أن الشيخ وجماعته كانوا مقادين ومستدرجين معصوبي العيون من قبل جاسوس للمخابرات الأمريكية يدعي «عزام- عزام» لايزال حياً ويربض في السجن بعد تسليمه لمصر، وتناضل إسرائيل الآن من أجل إنقاذه مكافأة له على «جمايله وتفانية».11سبتمبر، حدث لا تنقضي عجائبه ولا يمكن الإحاطة بكل نتائجه السالبة والمدمرة على أمريكا وعلى العالم برمته في مقال: الحروب والخسائر والفواتير الباهظة التي بلغت في أمريكا وحدها نحو «4 إلى 6» ترليونات دولار والأزمة المالية التي ضربت العالم كله، وفوق هذا وذاك فقدان الثقة بين أمريكا والغرب من جهة والعالم العربي والإسلامي من جهة أخرى، كل هذا وغيره يحدث... نعم تم قتل وتغييب بن لادن، لكن مأزق سبتمبر لايزال حاضراً، وبقوة.