هبطت بسلام والسلام!.. المأمول أن لا يكون الأمر كذلك، فالجميع سعداء ويسعدهم أكثر استثمار هذا النجاح لأقصى مدى ما دمنا اتفقنا على أنه فريد وأن العناية الإلهية أدركت أهل السودان وأخذت بيد من تشاور وتوكل على الله واتخذ قراره (المبرور) وهبط وسط تهليل الحشود وتكبيرهم. قرأ وتشاور وقرر، ليتنا نفعل ذلك نحن أيضاً، لا سيما أنه أسهل على الأرض، ولا يقلل من عظمة الإنجاز أن بعض الخبراء على الأرض قيموه بأعصاب هادئة، فكل شيء على الأرض مختلف، هناك من يقومون بإنزال آمن لطائرة معتلة، ونحن على الأرض نشكو ونتخاصم، ولا عذر ما دامت مهمتنا على الأرض وبالإمكان التشاور والاستعانة بمرشد، أليس هذا ما فعله الكابتن ومساعده؟ لقد استوقفني أن الكابتن أفاض في الحديث عن (المرشد) و(المهنية) و(التشاور)، ثم (اتخاذ القرار)، هذه دروس لا يجوز أن نفرط فيها. لقد صنفت احتفاء وزارة الموارد البشرية بأبطال هذا (الأداء) لصالح استثمار التجربة من جانبها المهني، فما أحوج الخدمة المدنية لذلك، ولا أدري ما يحدث في دول أخرى في مثل هذه الحالات، ولكن كثيرين منا تخيلوا أنفسهم في مكان الكابتن وشاركوه الإحساس بالخطر وفكروا في(الوصية) وبحثوا عن (المرشد) لاتخاذ قرار متعلق بأرواح البشر، لقد تحدث الكابتن عن المرشد وكأنه عصا موسى، بينما الثقافة على الأرض ضد ما كتبه الآخرون. يقولون إننا أمة شفهية ولذلك فالتعامل مع الكتابة مقترن بالتهاون حتى لو كانت الأهداف بمقاييس (أمة آمنة متطورة)، كما يقول الدكتور تاج السر محجوب أحد البارعين في الكتابة وله تجربة في سودانير كانت كافية لإعطاء مثال لإمكانية ردم الفجوة بين التنظير والتنفيذ قبل عصر الكابتن ياسر محمد الصفي وطاقمه ومعاونيه على الأرض. لقد أصبح التوثيق أكثر (حيوية) الآن بدليل أن مرشداً مكتوباً كان هو المرجع لكابتن توكل على الله وهبط اضطرارياً بسلام، لينجو هو و44 من الأنفس، ويجلب (الشكرة) لناقلنا الوطني بأكمله ويحفز مؤسساتنا جميعها لإرساء ثقافة الاحتياط والتدريب والمرشد الذي يسعف الحال، وكثير منها مضى في هذا الطريق بانتظار (العمل) به وظهور الثمار. وإني أتذكر هنا تجربة للتلفزيون تساند هذا الاتجاه، فلعله يصبح قاعدة انطلاق لكل عمل مرجو اتقانه، الاتقان يبدأ بما هو مكتوب على الورق، هذا هو الموجز وإليكم التفاصيل. حين عُيّن الأستاذ محمد حاتم سليمان مديراً للتلفزيون(2001) ظهر بما شغل الناس، فكأنه جاء فقط لهذه المهمة، أي أن يجعل للإنتاج التلفزيوني مرجعية مكتوبة، فهو يلتقي بالعاملين ويشكل فرق العمل ويستقطب الخبراء من الداخل والخارج، وبنفسه يكتب، وبشغف يخطط للمستقبل وكأنه بين يديه، ويعرف أن المسألة لها منتقدوها من حيث إنها تحتاج لوقت، فيستعصم بالله ويهتدي بهدي رسول الله صلى عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل)، رسخ بذلك ما كان موجوداً منذ إنشاء التلفزيون، فلابد من ورق مكتوب(إسكربت)، والتوثيق أصبح اليوم في عصر الجودة والمنافسة ضرورة، هذا الجهد المضني أثمر عن دليل عمل لكل برنامج، أهدافه وموضوعاته بحيث لا يتكرر الضيوف أو تختلط الأهداف أو يضيع الوقت أو تحدث ربكة على الهواء. تم طبع دليل لكل برنامج يساعد على إنتاج كامل الأوصاف، وبعنوان (مرشد تلفزيون السودان)، صدر عام 2009 كتاب يقول من كتب مقدمته وهو الأستاذ محمد حاتم سليمان، إنه من إعداد خبراء عبر ورشة عمل وفى ضوء الأوضاع الخاصة بالسودان وثوابته وقيمه وتعدد ثقافاته وأعراقه وما يصبو إليه، وإنه لا يشكل قانوناً أو حدوداً للإبداع بقدر ما هو دليل للسير في الطريق الصحيح). ويمكن تصور أهمية هذا الجهد، أولاً: تعميم ثقافة الكتابة وظهور كتاب بارعين في مجال التأليف وصياغة النصوص، وازدهرت أنماط مرغوبة عالمياً تعتمد على النص الكامل(Full script ) كالأفلام الوثائقية والدراما، إلى أن حلت كارثة التمويل أزالها الله، وحصلت أعمال عديدة على ميداليات ذهبية بالخارج، وهناك من أصدر كتباً في مجال تخصصه ومن انتقلوا بالتجربة لقنوات استقطبتهم. ثانياً: برزت أهمية التخطيط والتوثيق برصد أسماء النجوم والمبدعين وأهل الفكر والدعوة والسياسة والتربية والرياضة كمشاركين في البرامج، وظهر منتجون تمرسوا في الكتابة المرئية، فالكتابة الآن شرط عالمي للتوظيف في التلفزيون الذي يصنفه الخبراء على أنه (صحافة) مرئية. علمياً نجد اتجاه الكتابة منسوباً لأحدث نظريات الجودة وإدارة الإنتاج الإعلامي والتي تهتم بالتخطيط المبكر وتحديد من يقوم بالعمل ومواصفات الإنتاج وأهدافه المرجوة Does What and Why ?) Who) . هل تم العمل بهذه الأدلة؟.. الأمر خاضع للقياس كتجربة مهنية قد لا تخلو من مفارقات، فالبعض يراها مضيعة للوقت والمهم عندهم هو العمل تم أم لم يتم، الطائرة هل هبطت بسلام؟ وتبقى الكتابة مهمة وإلا لما حصلنا على (مرشد) يعيننا على الهبوط بسلام، ولا عرفنا كيف يفكر الآخرون ومنهم من يبتغي نصحنا لوجه الله، ومنهم المنافسون المتربصون ليتفوقوا علينا بإنتاجهم. والكتابة مهمة أيضاً لنعرف ماذا ترك لنا السابقون لنستفيد من تجربتهم لننجح، لكن الجانب العملي أهم، فهو الذي يعطي للتنظير قيمة، ولقد عملت يوماً مع مدير يطلب من كل مدير إدارة ورقة بما ينوي إنجازه من خطة إدارته خلال أسبوع، وفي اجتماع نهاية الأسبوع يجري الجرد: ماذا نفذت مما حددته بنفسك؟.. ولعل هذا مثال لمرشد عملي يطابق ما توصل إليه خبراء الجودة (أكتب ما تقول، نفذ ما تكتب). دعونا نكتب ما نقول (نفعل كل ما يمكن، وبالعدم ما يمكننا)، هذه الحكمة هي الخلاصة ولكن هناك مفارقات أيضاً، فالزعيم علي صالح جيب الله يحكي في إحدى يومياته أن قائد الطائرة استخدم المرشد بإتقان وحلق بسلاسة، لكنه عند الهبوط فوجيء بعبارة في المرشد تقول له (لتهبط بسلام أرجع للجزء الثاني من المرشد) ولم يكن موجوداً في الطائرة!!