ازداد إيماني ويقيني بقوله سبحانه وتعالى (إن الله لطيف بعباده) فجعلته عنواناً لهذا المقال من هول ما رأيت وسمعت من المواطنين الذين عايشوا أحداث الأول من سبتمبر في مدينة الدمازين عاصمة ولاية النيل الأزرق، وحقيقة الأمر لولا لطف الله العلي القدير بعباده الذين قضوا شهر رمضان المبارك صياماً وقياماً وفي عبادته تبارك وتعالى، لصارت مدينة الدمازين مدينة الموت، ولغرقت في دماء غزيرة وعزيزة على الوطن الصغير والوطن الكبير. فقد أراد السيد مالك عقار تطبيق ذات الخطة التي أراد عبد العزيز الحلو تطبيقها في جنوب كردفان بالاستيلاء على العاصمة بالقوة، ثم التطهير العرقي لكل العناصر العربية وقيادات حزب المؤتمر الوطني وزعماء العشائر والعمد والمشايخ من غير الموالين للحركة الشعبية وأعدت قوائم بأسمائهم، وأعلمت من كلفتهم من عناصرها بمهمة التصفيات سواء بالذبح بالسواطير التي كانت معدة بأعداد كبيرة، أو بالرصاص.. وتقديري أنه وحسب الخطة أن تكتمل هذه العملية- الاستيلاء على مدينة الدمازين والتصفيات- بين ساعة الصفر الواحدة من صباح يوم الجمعة والحادية عشرة، أي في إحدى عشرة ساعة فقط، وتركزت مهام العمليات في السيطرة على قيادة الفرقة الرابعة مشاة وهي العمود الفقري في استتباب أمن الولاية وهي رمز السيادة الوطنية، وبالاستيلاء عليها تسقط مدينة الدمازين والولاية وتصبح في قبضة الحركة الشعبية وكان من المنتظر أن يعود السيد مالك إلى المدينة منتصراً وهو الذي كما جاء في الأخبار أحرق علم السودان في الكرمك ورفع علم جمهورية جنوب السودان، ولا ندري ماذا كان سيعلن في الدمازين إذا ما استولى عليها، هل ضمها لجنوب السودان أم استقلالها، وكيف يعلن ضمها أو استقلالها دون أخذ رأي مواطنيها، فالجنوب انفصل بموجب استفتاء لشعبه أعطاه حق تقرير المصير في اتفاقية السلام الشامل، وهي ذاتها أعطت أبيي حق الاستفتاء للانضمام إلى الجنوب أو الشمال، ونلحظ أن الاستفتاء أعطى الجنوب حق الانفصال، بينما أعطى أبيي حق الانضمام، ولكن لا استفتاء في النيل الأزرق- لا انفصال ولا انضمام ولا استقلال- ومن جهة أخرى إذا افترضنا جدلاً أن السيد مالك تمكن من الاستيلاء على العاصمة الولائية الدمازين، فهل كان يتوقع أن تبارك له الحكومة المركزية في الخرطوم ذلك وتصرف النظر عن ولاية النيل الأزرق وتدعها تذهب بتلك البساطة إلى السيد مالك؟.. وولاية النيل الأزرق ليست مزرعة خاصة بالسيد مالك يغير ملكيتها لمن يشتري ويقبض هو الثمن منه، والسيد مالك قبض الثمن من الولاية، فقد بنى مجده منها وأثرى ثراءً فاحشاً بسببها ووصل الرتبة العسكرية العالية (فريق) في جيش الحركة الشعبية، ونائب لرئيس الحركة بفضل الولاية، وتم تعيينه والياً عليها ثم والياً عليها بالانتخاب، وبعد هذا كله لم يقدم لها السيد مالك كما لم تقدم الحركة الشعبية لها مشروعاً واحداً تنموياً، بل ظل شعب الولاية حيث تمركز الحركة الشعبية في محلية الكرمك لخمسة وعشرين عاماً في جهل وفقر ومرض وعطش لا مدرسة ولا شفخانة ولا صهريج ماء، فالحصيلة إذاً للمحلية صفر كبير، بينما ربح السيد مالك منها ربحاً كبيراً، وامتد الربح إلى أبناء قبيلته الأنقسنا في الجهاز التنفيذي والتشريعي، دون أبناء القبائل الأخرى الذين قاتلوا معه. استفاد السيد مالك من منصبه (الوالي)، ورئاسته للجنة أمن الولاية من إنشاء جهاز مخابرات خاص بالحركة الشعبية تحت اسم (الأمن المدني) بما لا يقل عن الألف شخص بمدينة الدمازين يجمعون له الأخبار والمعلومات ويخططون لاستلام المدينة والاغتيالات، كما استطاع تحريك قوات وآليات من الكرمك إلى قرية أبوقرن القريبة من الدمازين والتي كانت مهمتها عند ساعة الصفر في الساعات الأولى من صباح الجمعة الأول من سبتمبر، الزحف نحو المدينة سنداً للقوة بداخلها ولتأمينها بعد الاستيلاء عليها، وكانت قوة أبو قرن كبيرة في عدد الرجال والآليات، ولهذا كانت المعركة فيها أشبه بالمعركة الفاصلة، فبدحرها أخذت في التقهقر والتشتت، فمعركة أبو قرن قصمت ظهر قوات مالك عقار التي تبجح بها، بل قال إنه مستعد للقتال لثلاثين عاماً في حين أنها لم تصمد لثلاثة أيام عندما جاءت ساعة النزال، فتخيل أيها القاريء الكريم لو استولت قوات مالك عقار على مدينة الدمازين وقامت بتصفية من أرادت تصفيتهم وزحفت نحو المدينة بالقوة المتمركزة في القرن- أكثر من الفين وبآليات- وتفشل هذه الخطة فلا تملك إلا أن تقول (إن الله لطيف بعباده). تعاملت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى من الشرطة وجهاز الأمن والمخابرات بمهنية عالية واحتراف لا نملك إلا أن نشيد بهم وندعو الله سبحانه وتعالى لهم بالتوفيق والنصر، فقد نصروا الله فنصرهم، فقد نصروا الله بالذود عن الدين والأرض والعرض وحماية المسلمين وإنقاذ أرواحهم من القتل والذبح حسب تخطيط قوة مالك عقار والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، فثبتت أقدام جنود القوات المسلحة وولت فلول التمرد الأدبار، فقد ظهرت هذه المهنية العالية في عمليات القوات المسلحة في هزيمة المتمردين ودون أن يصاب أي مواطن بطلق ناري أبداً، والمعركة تدور داخل المدينة والتي يسكن مواطنوها في قطاطي من (القش) وهي سريعة الاحتراق ورغم هذا لم تصب أي قطية بحريق، ونزح المواطنون من المدينة حفاظاً على أرواحهم وتركوا ممتلكاتهم بالطبع داخل منازلهم، فكانت قمة المسؤولية لدى القوات المسلحة فلم يتعرض أي بيت إلى نهب أو سلب أو سرقة، وبذلك قامت أجهزة الأمن المختلفة بتأمين المواطن ومنزله وممتلكاته، وقد أصابت رصاصة القوات المسلحة العميد في جيش الحركة الشعبية جعفر جمعة رزق الله الساعد الأيمن للسيد مالك عقار والذي تدرب على حرب المدن في جنوب أفريقيا وإسرائيل، فمات في الكرمك الأثيوبية تحت محاولات إسعافه وعلاجه (إن الله لطيف بعباده). لن يهدأ بال مواطني ولاية النيل الأزرق إلا بعد دخول القوات المسلحة إلى مدينة الكرمك، ثم تذهب إلى يابوس في الحدود مع أعالي النيل، وتبسط سطيرتها في السمري وتقيم مراكز ارتكازها في ودكة أيضاً وتعود كل المحلية إلى حضن الوطن ويرفرف علم واحد على السارية ويختفي علم الحركة الشعبية إلى الأبد، وقبل هذا فلا مساومة ولا تفاوض إلا إذا وضع المقاتلون أسلحتهم وسلموا أنفسهم إلى السلطات وهذا هو تقديري، لقد بدأ عهد مالك في العد التنازلي في الرابع عشر من رمضان، حيث خاطب جمعاً في احتفال وداع الجنوبيين الذين كانوا يعملون في الولاية، وقال لو أنه كان كاذباً فلينزل عليه سبحانه وتعالى آية، واستجاب الله العلي القدير دعاءه لأنه كان كاذباً، فأنزل آيته بنزع السلطة من السيد مالك وإفشال خططه التي كان يخفيها والله سبحانه وتعالى يعلم الجهر والسر وما يخفى وهو اللطيف الخبير، ويقيني أنه قال قوله ذلك مستهزئاً ومستبعداً أن تنزل عليه آية.. ولكنها نزلت لأن الله لطيف بعباده.