كشف خبير إعلام إمريكي عن شروط جديدة إلحقت بقائمة اختبارات المتقدمين للعمل بالقنوات الفضائية. قال إنه نفس الإمتحان الذى يخضع له المتقدم للعمل الصحفي وفحواه (كيف تكتب)؟ . كان يرى فى الأمر غرابة، فما دخل التلفزيون بالكتابة؟ وهي شأن صحفي بحت فجعله موضوعاً للدراسة عن أهمية الكتابة لمن يعمل فى التلفزيون، بعد أن كان الإعتقاد أنه مجرد(صورة وبس)!. مع مايبدو من غرابة في هذا الطرح لكني تذكرت أن الأستاذ محمود أبو العزائم- عليه رحمة الله- سبق الخبيرالأمريكى لهذا الإكتشاف لدى تعيينه مديراً للإذاعة.. لقد سأله صحفي متعجباً: كيف تدير إذاعة وخبرتك كلها فى مجال الصحافة؟! .. أجاب ببساطة ((كنت أكتب وأرسل للمطبعة والآن أكتب وأرسل للمايكرفون)،، توالت بعد ذلك إضافاته الإذاعية فظهرت برامج بحجم (كتاب الفن)، والعديد من الأفكار الإذاعية المقروءة وكوادر من المذيعين والبرامجيين، يعددون لمساته الإذاعية كصحفي متمرس بأفق مفتوح على كل الوسائط. حدث هذا قبل أن يصل الخبيرالإعلامي الأمريكي لاكتشافه الخطير هذا بثلاثين عاماً، وهو ما يمكن أن نعتبره أكثر شيء عجباً مما إكتشفه هذا(الخواجة)، لكن الذي يهمنا هنا مع الإعجاب بذكاء الخبيرين، ومراعاة تباعد الزمن والجغرافيا، هو أن الكتابة أصبحت مهمة، وهى أصلاً مهمة لكن الجديد إنها مهمة لأى إعلامي سواء كان يعمل في الصحافة أم الإذاعة أم التلفزيون والنت. الواضح الآن أن هناك استجابة لهذا النهج، مما نسمع ونشاهد، حيث تطربنا لغة الأفلام الوثائقية والتعليمية والتقارير الإخبارية في القنوات، وجميعها يعتمد على النص المتقن، والأهم وهو ما يهمنا هنا هو ظهور كُتَّاب بارعين فى التأليف للصورة، أي للتلفزيون، في إتجاه لمحاصرة البرامج (الهايفة)..وهناك أمثلة استوقفتنى وأوحت لي بهذه الخواطر عن عناصر تلفزيونية أبدعت فى الكتابة للشاشة، لدرجة أنها جاءت بانتاج إعلامي يجلب لبلادنا الذهب. صادفته في حوش التلفزيون يمد يده نحوي بشيء ويمضي عجولاً كصقر الجديان يتفرس بعيداً في شيء ما ذي شأن، نظرت فيما وضعه طي يدى فإذا هو كتاب عن الشعر والشعراء من عناوينه(نستولوجيا الحنين إلى الوطن عند البروفيسور عبدالله الطيب والمجاذيب، صلاح حاج سعيد شعر ومساحة للعشق والحزن النبيل، إمرأة بلا سواحل خارجة عن سنة الأوائل)، واتضح أنه قراءة فى أشعار عدد من الأدباء(المجذوب، المحجوب، صلاح أحمد إبراهيم، الدوش، عكير الدامر، وسند). المؤلف معروف ومألوف هو المخرج محمد سليمان دخيل الله، قدم للكتاب الأستاذ مجذوب عيدروس يصفه بأنه(يأخذ من الحياة جوانبها المشرقة المليئة بالأمل فى غد أفضل). لم يعجبني صمته وهو يدس في يدي النسخة وينسلخ فتركتها جانباً، لكنه أثلج صدري لحظة الإطلاع على الإهداء أريحية لم أتبينها فيه طوال عملنا معاً عبر برامج عديدة منها سهرة ذائعة الصيت(مع المتفوقين) سبقت كل الأشكال المبتكرة التي ظهرت لاحقاً من برامج الثقافة والمنوعات والمسابقات والرعاية والحضور المهيب، وهى من إخراجه وتقديم صديقنا أحمد الملك، وإعداد فريق عمل متكامل من إدارة البرامج التعليمية. دخيل الله إذن يكتب الآن، نقرأ له في «الصحافة» ويجمع مايكتب فى كتاب . مازال مخرجاً لكنه هدأ، حول خطبه الرنانة وانتقاداته الساخنة فى لقاءات العاملين إلى طاقة أكاديمية، حيث درس وتحول إلى محاضر بكليات الإعلام والدراما، وربما الفلسفة أيضاً فإنه يكتب مالا تسعه رؤيته الإخراجية الرقمية، دخيل الله عالم من الإبداع والقلق والترقب و الإنسانيات، وجد نفسه أخيراً في الكتابة، وصادف هواه ما انتهت إليه الممارسة بأن التلفزيون صحافة، وما خلص إليه علماء الإعلام والإتصال من أن من (لا يكتب) لا مجال له في الإذاعة ولا التلفزيون . لا أخفي أنني فوجئت بشخص آخر غير الذي عرفته طوال عملنا بالتلفزيون وصورته الغالبة هى إنه يجيد الكلام، مناكف غالباً ما أترك له الطريق حين أصادفه خارج الاستديو وغرفة المونتاج، حيث يبدو جاهزاً لمعركة من أي نوع، ولذلك فاجأني بصمته وهو يدس في يدي كتابه حين صادفته هذه المرة لأفاجأ بمفاجأة أخرى هي أنه كتب عني كلاماً غريباً كإهداء (إلى شيخي، الأستاذ الدكتور الصحفي الذي يرسم الكلمات تحدياً ويضيء آفاقاً جديدة ليعلمنا الكلام). احترت هل هو يقصدني؟! ثم قلت لنفسي إن الإنسان الذي تخصص في النقد يجد من يصدقه إذا نظر بعين الرضا، وقد توكلت على الله وصدقته فالدنيا عيد.. ليت كل من ادخر لأخيه وفاء يجهر به فهذا من الدين (الحديث النبوي). تجنباً لحرج أوقعني فيه دخيل الله بكلام قد لا أستحقه، سأعمم الحديث مستأنساً بغيره من المخرجين الذين ساروا في ذات الطريق وحصدوا جوائز بالخارج، فبالإمكان القول بإن المخرج حين يكتب يأتي بجديد، كتابته مختلفة تماماً فهي تنساب وفق(رؤية) وسيناريوهات تخلو من الحشو والإستطراد، هناك توجه عالمي نحو الإنتاج (المتقن) الذي يعتمد على الأشكال البرامجية كاملة النص( Full Script) بعد أن سئم الناس الإرتجال والثرثرة على الهواء، فكم من أفلام وثائقية سودانية حصدت جوائز ذهبية في الخارج بكتابات هادفة بمنتهى الرشاقة والإمتاع والفائدة. هكذا(الكتابة) أصبحت من مطلوبات الشاشة في عصر التلفزيون عالي النقاء، ثم هي تدر الذهب، وماكتبه مبدعو التلفزيون وماكتبه عنه الآخرون من بحوث ودراسات وسناريوهات نموذجية هي الآن في مقام الإحتفاء والعيد الذهبي على الأبواب.. لعل الدولة تتذكر من جلبوا الذهب لبلادهم فتكرمهم ليتسنى حصاد المزيد، فما الأغلى من الذهب بين ماهو متداول بين الدول وفيه يستثمر الأذكياء؟ . كل ذهبية والبلاد بخير سعيدة بأبنائها حداة التعليم ورهان التميز بالمعرفة.