المفاجأة الكبرى والصاعقة التي حملها التشكيل الوزاري لولاية الخرطوم، والتي أصبحت حديث المدينة- والمدينة هنا هي العاصمة القومية بمدنها الثلاث- هي تعيين الدكتور مامون حميدة وزيراً للصحة. المفاجأة والدهشة لا تنطلق من تشكك في كفاءة الرجل العلمية أو المهنية، فالرجل أكاديمي ضليع قاد من قبل كلية الطب في أعرق جامعاتنا الوطنية، جامعة الخرطوم، بل ترقى في عهد الإنقاذ حتى أصبح مديراً للجامعة ذاتها، لكنها تتأتى مما هو لاحق في سيرة «البروفسير» بعد أن غادر الجامعة وتفرغ لأعماله الخاصة في ذات المجال، مجال الطب وتعليم الطبابة، حتى غدا من رموز المال والأعمال في سنوات معدودة وحقق «نجاحاً» منقطع النظير واشرأبت في إطار «إمبراطوريته الطبية- العلمية» المستشفيات الباذخة والكليات المختصة ولم يستثن حتى الإعلام والإذاعات باعتبارها أدوات ضرورية لتوجية الرأي العام. ü المفاجأة والدهشة التي ارتفعت لها الحواجب وأطلقت الألسن تنبع من سؤال مركب هو: لماذا هذا الاختيار وفي هذا الوقت بالذات؟ سؤال تتفرع منه تساؤلات عديدة أولها: هل بالضرورة أن يكون منصب الوزير في أية وزارة من ذات التخصص والمهام التي تطلع بها الوزارة المعنية، أم أن المنصب تراعى فيه شروط أخرى إذا لم يكن القرار أصلاً هو تشكيل «حكومة تكنوقراط»؟ وهل يجوز اختيار وزير لوزارة تقع في محيط استثماراته وأعماله، خصوصاً إذا كانت تلك الاستثمارات والأعمال قد بلغت حداً من الاتساع والتضخم بحيث يصبح التفريق بين المصلحة العامة والخاصة في حكم المستحيل؟ ومن حيث التوقيت ألا يأتي تعيين الدكتور حميدة في وقت اتخذت فيه الدولة قراراً بأيلولة «المستشفيات الاتحادية» بولاية الخرطوم إلى الولاية ولتصبح إدارة تلك «المستشفيات العامة» تحت قيادة نفس الوزير صاحب «الأمبراطورية الطبية» فيحدث التناقض والتضارب بين ما يخص «الوزير» وما يخص «الوزارة» المشرفة والرقيبة على جميع المستشفيات الولائية- خاصة وعامة- وبالتالي يسقط الوزير فيما يعرف في علوم الإدارة والقانون بتضارب المصالح الذي يسميه الانجليز بال«CONFLICT OF INTERESTS»؟ ü هذه أسئلة عامة ومشروعة من حيث المبدأ يثيرها تعيين الدكتور مامون حميدة وزيراً للصحة، ولكن إذا ما انتقلنا مما هو عام إلى ما هو خاص، ويتعلق بشخص الوزير وأعماله الخاصة التي راقب الناس توسعها و «نجاحاتها» وتشعباتها المتسارعة، فالأمر ينتقل بنا من خانة التساؤلات إلى خانة الاتهامات التي تسقط عنه حق «الولاية العامة» التي تتطلب في من يتولاها شروطاً ومؤهلات دقيقة تجعله فوق كل الشبهات صغرت أم كبرت، حتى يطمئن الناس إلى صيانة حقوقهم ومصالحهم وأن من يتولى أمراً من أمورهم وأمانة من أماناتهم يؤديها بحقها، خصوصاً لو كانت تلك الولاية تتصل بشأن في حساسية صحة الناس وحياتهم. ü شاءت المصادفة، أنه في ذات يوم إعلان التشكيل الوزاري، الذي أُسندت فيه وزارة الصحة بولاية الخرطوم للدكتور مامون حميدة أن نشرت جريدة «الوطن» الغراء- الثلاثاء 15 نوفمبر العدد (3008)- جملة من المخالفات للدكتور مامون حميدة بالوثائق والمستندات، أعدها وعلق عليها الزميل جمال عنقرة في الصفحة الخامسة من ذلك العدد، وكلها- للمفارقة- مخالفات صادرة من ذات الوزارة التي أصبح مامون حميدة بحكم التشكيل الوزاري الجديد وزيراً مسؤولاً عنها، وعن الإدارة المختصة في تلك الوزارة التي لاحقت مستشفياته و«الزيتونة» منها بوجه خاص جراء تلك المخالفات الموثقة، فأنذرت إدارة مستشفاه ووقعت عليها الغرامات وهددتها أكثر من مرة بالإغلاق، وهنا رصد لبعض تلك المخالفات الموثقة والمنشورة التي أوردتها «الوطن»: 1. الإدارة العامة للطب العلاجي بوزارة الصحة- ولاية الخرطوم- في خطاب موجه لمدير عام مستشفى الزيتونة، يحمل شعار الوزارة وخاتمها الرسمي، بتاريخ 25/مايو/2011، والموضوع: محاليل معمل منتهية الصلاحية، يبلغ الخطاب المدير أنه «خلال الزيارة الإشرافية للمستشفى بتاريخ 24/5/2011 تم العثور على محاليل معمل منتهية الصلاحية (عدد 4 فتايل من Vitamin B12)، ويقرر دفع غرامة مالية قدرها خمسة آلاف جنيه سوداني على أن يتم دفعها خلال (72) ساعة، ويتضمن الخطاب (ملحوظة) بأن «هذا تكرار للمخالفة، فقد تم العثور على أدوية ومحاليل منتهية الصلاحية وغير مسجلة بتاريخ 23/11/2010م». 2. خطاب من ذات الإدارة بذات الوزارة بتاريخ 18/2/2010 موجه لمدير عام مشروع مستشفى الزيتونة وموضوعه: العمل بدون الحصول على التصديق النهائي ينبه المدير بأنه اتضح من خلال زيارة لجنة التفتيش التابعة لإدارة المؤسسات العلاجية «بأن قسم العناية المكثفة يعمل وبه عدد من المرضى المنوَّمين، وذلك بدون الحصول على التصديق النهائي، وعليه استناداً على لائحة عقوبات المؤسسات العلاجية الخاصة للعام 2002 تقرر: 1 إغلاق القسم المعني فوراً 2 دفع غرامة قدرها 2000جنيه سوداني 3 متابعة الإجراءات الخاصة بمنح التصديق النهائي. 3. خطاب من ذات الإدارة بذات الوزارة بتاريخ 28/3/2011 موجه إلى مدير عام مركز الزيتونة للعلاج الطبيعي، والموضوع: مزاولة العمل بدون تصديق، يشير الخطاب لزيارة فريق المراقبة التابع للإدارة التي اتضح من خلالها أن «المركز الكائن بشارع مستشفى حوادث الخرطوم يعمل بدون الحصول على ترخيص يسمح بمزاولة العمل.. وهذا يعتبر مخالفاً لقانوني الصحة العامة لعام 2008 والمؤسسات العلاجية لعام 2010»، وعليه وجهت الإدارة «بإغلاق المركز فوراً وإلا سوف يتم اتخاذ الإجراءات القانونية». 4. تقرير لذات الإدارة بذات الوزارة التي أسندت مسؤوليتها أخيراً للدكتور مامون حميدة بتاريخ 22/3/2011، يؤكد أنه بعد زيارة لفريق من الإدارة في ذات اليوم- حوالي الساعة التاسعة صباحاً- وبسؤال موظفة الاستقبال قسم الأشعة عن اختصاصييْن موقوفيْن من قبل إدارة المؤسسات العلاجية الخاصة لحين تسجيلهما بالمجلس الطبي وبعد تعهد المدير الطبي للمستشفى بذلك، اتضح للفريق أنهما يعملان مساءً، وعند سؤال المدير الطبي لم ينف ذلك، وتم إنذار المدير الطبي للزيتونة شفاهةً بعدم مزاولة الاختصاصيين المذكورين ما لم يتم تسجيلهما بالمجلس الطبي. ü لجريدة «الوطن» تاريخ طويل وأرشيف ذاخر في متابعة المخالفات المتصلة بمؤسسات الدكتور مامون حميدة، سواء تعلق ذلك بفرض الرسوم الجديدة على الطلاب الراسبين بجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، أو شكاوى المواطنين بامتداد الدرجة الثالثة من التلوث البيئي في محيط «المستشفى الأكاديمي»، وقد اضطر مامون حميدة لرفع قضية في مواجهة الصحيفة، وكان قرار المحكمة تبرئة الصحيفة التي وصفها بأنها قامت بواجبها ومسؤوليتها المهنية وأن النشر كان صحيحاً في كل جوانبه وأمر القاضي بشطب البلاغ. ü وبعد.. ليس بيننا وبين الدكتور مامون حميدة قضية أو خلاف على المستوى الشخصي، بل أكثر من ذلك لم يحدث أن تشرفنا بالتعرف عليه شخصياً، لكن ما يدعونا إلى هذا التنبيه والتساؤلات هو الواقع الذي يمثله الدكتور مامون باعتباره من أكبر المستثمرين في الفضاء الصحي للعاصمة القومية من جهة، ولولوغ مؤسساته الطبية في مخالفات موثقة ومنشورة يصعب على الضمير الصحفي تجاوزها أو تجاهلها عندما يرتقي الدكتور لقيادة ذات الوزارة وذات الإدارات التي سجلت عليه تلك المخالفات ووقعت عليه العقوبات.. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد!