لم تسعدني الظروف هذا العام بأن اعبر للأراضي المقدسة كما فعلت في العام السابق -حيث قضيت هناك أياماً روحانية- التقت فيها النفس بعوالم من الأنوار الربانية، بدءاً من طواف القدوم ثم الشعائر الأخرى من سعي وأيام منىّ وعرفات والمزدلفة، ثم منىّ مرة أخرى لرمي جمرات العقبة فطواف الوداع، الذي يودع فيه الحجاج على أمل أن يعودوا مرة ومرات.. ولأنني لم أتمكن من اداء هذه الشعيرة هذا العام كما فعلت في العام الماضي-فقد عشت أيامها واجتررت ذكرياتها من خلال مقالات نشرت لعناوين: لبيك اللهم لبيك- قاصد مدينة الخير- ما احلى المبيت بمنى- ومن عرفه الى المزدلفة النية واصلة- ومع اتساع الفارق فقد سعدت هذا العام بأن سمحت لي الظروف أن أقضي أيام العيد بالولاية الشمالية بعد غيبة دامت سنوات، رغم سهولة الطريق ومغريات السفر الى هناك، حيث أصبحت عوامل الجذب كثيرة، وفي مقدمتها توفر الكهرباء التي جلبت معها عوامل الحضارة المتعددة من مبردات هواء، وثلاجات، ومراوح، وأدوات كهربائية متعددة، مع توفر الثلوج بكميات وافرة. وبمناسبة الكهرباء لابد أن أشير الى أن أول محاولات ادخال الكهرباء لمناطق الولاية الشمالية كانت في اواسط الثمانينيات، حيث توجه وفد من الولاية الشمالية يضم وزير الاسكان والمرافق العامة، والأستاذ علي فقير عبادي، ومدير الكهرباء المقترحة، وشخصي الى الدنمارك لمتابعة تنفيذ الاتفاقية الموقعة مع الحكومة الدنماركية، بتصنيع وشحن محطة الكهرباء الكبرى للمنطقة الجنوبية من الولاية، ورغم أنني كنت قد كتبت عن تلك الرحلة الاسطورية، إلا أن ذلك يتطلب المزيد من التوثيق، وسوف أفعل إن شاء الله من خلال تواصلي مع قراء «آخر لحظة». بعد هذا السرد أعود الى عناصر الجذب للولاية الشمالية، ومن ضمنها الأسفلت الذي غطى كثيراً من أنحاء الولاية، مما جعل التواصل الداخلي ميسراً.. لقد اختفت عربات الدفع الرباعي الرملية، وانتشرت الصوالين الصغيرة، كما انتشرت كما هو في بقية السودان وسائل الاتصالات، وقد لاحظت أنها لها نكهة خاصة هناك، فعادي أن تشاهد المزارع وهو يعمل في حقله يتحادث مع أهله بالمناطق المختلفة وربما خارج السودان، وكذلك الذين يتحركون على ظهور دوابهم، تسمعهم يتحادثون مع الآخرين وهم سائرون، وحتى النساء كبيرات السن فهن يقتنين موبايلات حديثة للتحادث مع أبنائهن أو أحفادهن بصورة تحسسك بأن هولاء وهن في هذه المرحلة من العمر قد اراد الله لهن أن يشهدن هذه الحضارة و«يأخذن حقهن منها». لقد عدت بملاحظات متعددة وأنا أقضي العيد هذا العام بالشمالية، وسوف أحاول الآن ولاحقاً أن أشير الى بعضها.. فقد شاركنا في الاحتفال الكبير المقام سنوياً لإحياء ذكرى العارف بالله السيد نور الدائم العجيمي بالبرصة، والحديث عن العارف بالله نفسه يحتاج الى وقفة، فقد أشرت الى ذلك في مقالات سابقة لكن أرى أن مسيرة هذا الرجل تحتاج الى المزيد من التركيز، ولأن الظروق قد جمعتني به كثيراً في تلك السنوات البعيدة عندما كنت أعمل مسؤولاً إدارياً بمروي وكريمة، مما جعلني اتعرف عليه عن قرب، حيث كنا نزوره كثيراً ويأتينا هو في رحلة سنوية شهيرة، وسوف أحاول في مقالات لاحقة أن أكشف المزيد عن سيرة هذا الفقيه العالم. لقد التقيت في هذه المناسبة بمنطقة البرصة بعدد من القيادات مع جمع كبير من المحبين والمريدين في تلك القرية، التي تقع عند منحنى الجبيل، والمقصود هنا جبل كلنكاكول الذي يحتضن قرية البرصة وينتهي طرفه عندها في انحناءه حنونة -والاحتضان لا يتم إلا للاعزاء.. وقد أصبح تعبير «منحنى الجبيل» تعبيراً صوفياً ورد في عدة مواضع بالمدائح والأقاويل المأثورة، وتصغير الجبل هنا المقصود به التعظيم وليس التصغير، كما تقول الشاعرة الأم «أنا عافي منك يا وليدي» وهي تعني تعظيم ابنها واعزازه. وجبل كلنكاكول الذي يحتضن البرصة أشار اليه الشعراء والأدباء كثيراً ومنهم اسماعيل حسن عندما قال: «كانكاكول ابو الصلاح يابا ويا جبلاً تطل فوق السحابا وليداتك في القرية يابا صغيرونن كبر والليله شابا طريتك يا الجبل كاسياك مهابا طريتك وطريت أهلي التعابا ساوين الجروف ميدان حرابا لا غيماً يمر لا ضل سحابا». لقد شارك في الحولية والي الشمالية، ووالي النيل الأزرق رغم ظروفه الأمنية، ولكنه من المدمنين لحضور هذه المناسبة، كما شارك الأستاذ كمال عبيد، وصلاح قوش، ود. مصطفى عثمان، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالطريقة العجيمية، واذكر أن العارف بالله السيد نور الدائم كان دائم السؤال عن والد د. مصطفى عندما أصيب في رحلة حتى تم شفاؤه بإذن الله، وبدعوات السيد العجيمي المتواصلة.. وقد ذكر د. مصطفى في حديثه في المناسبة أنه كان يرافق الشهيد الزبير في زياراته للسيد العجيمي بقصد الدعاء للانقاذ والسودان، بأن يحقق الله ما فيه الخير، وكان ذلك في إطار الدعاء المستجاب-وفي هذه المناسبة لم نلمح المهندس الحاج عطا المنان، ولا شيخ الصافي جعفر، وذلك لتواجدهما بالأراضي المقدسة. والي الشمالية انتهز فرصة التجمع فتحدث عن الزراعة، ووجوب أن يشمر المزارعون لمواجهة الموسم الشتوي، ولكني أعلم أن المزارعين جاهزون، ولكن المطلوب أن تشمر الحكومة عن ساعد الجد لاصلاح المشروع الكبير المتوقف هناك، والعمل على اكمال توصيل الكهرباء اليه، وموضوع الزراعة بالشمالية يحتاج منا للمزيد من التناول، رغم أنني قد سبق كتبت فيه كثيراً انطلاقاً من المستجدات التي تشهدها الولاية، حيث انتهت اسطورة ضيق الأراضي مع وجود الآليات لاستصلاح الرؤوس العليا. سوف نواصل في هذه الملاحظات مع تقديم المقترحات التي نرى أنها تضيف شيئاً.. لتحيا ذكرى العارف بالله مولانا العجيمي رضي الله عنه وارضاه، ولنستخلص منها في كل عام العظات والعبر.