في لقاء صحفي أجريته مع زعيم الحركة الشعبية التاريخي في ضاحية طرفية وغامضة بالعاصمة الاثيوبية في أغسطس من العام 1989، سألت الدكتور جون قرنق ذات السؤال الذي يسأله الناس اليوم وأصبح موضوعاً للجدل والقلق والمخاوف، قلت له: كيف يمكن لحركة تنطلق من إقليم واحد وينتمي مقاتلوها أساساً لذلك الإقليم الواحد أن تصبح حركة قومية «لتحرير السودان» كما يشير اسمكم، وألا تخاف أن ينتهي بها الأمر إلى حركة انفصالية تعبر فقط عن ذلك الإقليم، فكان جوابه أن الحركة انطلقت من الجنوب لعوامل موضوعية أملت عليها ذلك، ذلك لأن الجنوب هو أكثر مناطق السودان معاناة من الظلم والتهميش والتخلف، لكن الحركة من واقع أفكارها ودستورها وإعلانها السياسي «المانيفستو» هي حركة قومية تستهدف تحرير السودان عبر إعادة هيكلة الدولة السودانية وبناء السودان الجديد، وهي مفتوحة لاستقبال جميع المقاتلين والمناضلين من كل أنحاء السودان لأجل تحقيق هذا الهدف. هكذا كانت إجابة الراحل الكبير قرنق -معنيً وليس نصاً- لأن النص ليس بين يدي الآن وإن كان متوفراً في إرشيف صحيفة «الاتحاد» الإماراتية التي نشرت المقابلة حينها، وفي إرشيف «الوطن» السودانية التي عمدت إلى نشره لاحقاً إثر اتفاقية السلام الشامل وعودة قرنق إلى الخرطوم. وهو نفس السؤال الذي يطرحه د.الواثق كمير مجدداً، من خلال أوراقه وكتاباته في ظل الواقع الجديد، الذي خالف توقعات وأحلام الزعيم التاريخي المؤسس للحركة، حيث يقول الواثق في ورقته الجديدة الموسومة: «قطاع الشمال للحركة الشعبية: تمثيل مؤسسي أم إشراك مظهري؟»: «الوحدويون الجنوبيون، والشماليون(اثنياً وجغرافياً) تدور في رؤوسهم العديد من الأسئلة تبحث عن إجابات، وتعوزهم الحيلة في التصدي لأسئلة الأصدقاء والأعداء على حد سواء، والتي لا ينقطع سيلها حول مواضيع الوحدة والانفصال وتقرير المصير والتدبير له من وراء ظهورهم، مما يجعل جُلّهم يتشكك ويرتاب، بل وبات مقتنعاً بسعي قيادة الحركة نحو انفصال الجنوب والتدبير لهم من وراء ظهورهم وخارج أطر المؤسسات الدستورية للحركة، دون أدنى وازع سياسي أو أخلاقي». ولتفصيل هذه الريب والشكوك، التي كانت عندنا في عام 1989 مجرد سؤال حول مستقبل الحركة طرحناه على القائد المؤسس، والتي أصبحت عند الواثق والوحدويين شمالاً وجنوباً -الآن في ظل الوضع الراهن- اقتناعاً بسعي الحركة نحو الانفصال والتدبير له من وراء الظهور، يورد الواثق جملة من الوقائع تتصل بأمرين: الأول عمل التنظيم ومؤسسات الحركة والكيفية التي يعمل بها قطاع الشمال والتي تتعامل بها معه قيادة الحركة، والثاني هو الموقف المتعلق بقرار مقاطعة الانتخابات، ويمكننا الوقوف عند بعض أهم تلك التفاصيل التي جاءت في ورقة الواثق على النحو التالي: ü ترجًّى الواثق ورفاقه الشماليون أن يتمكن المؤتمر الثاني للحركة المنعقد في مايو 2008، في ظل اتفاقية السلام الشامل، من بناء حركة قادرة على المنافسة والفوز بالانتخابات (المقبلة)، لكن خاب ظنهم في أجندة المؤتمر ونتائجه، بالرغم من نجاحه في حسم مسألة القيادة والحفاظ على وحدة الحركة وإجازة الدستور والمانيفستو. لكن بالرغم من المصادقة على «رؤية السودان الجديد» إلا أن هذه الرؤية لم يتم تفصيلها في أي إستراتيجيات أو سياسات أو برامج يسترشد بها العمل اليومي، ولم تطرح للتداول حتى كتابة ورقة الواثق الجديدة. ü نعى الواثق أيضاً على قيادة الحركة عدم اكتراثها لما أسماه «التجديد التنظيمي» من حيث تعزيز هياكل الحركة ومؤسساتها بما يتناسب مع الواقع السياسي الجديد في مرحلة ما بعد اتفاقية السلام، وهذا أيضاً مما أخفق فيه المؤتمر العام الثاني. ü ويرى الواثق أنه حتى بعد مرور أكثر من عامين فإن السمة الرئيسية للممارسة السياسية للحركة هي غياب المؤسسية في عملية اتخاذ القرار، بما في ذلك خرق الدستور الذي أجازه المؤتمر، وضرب مثلاً بتعيين السكرتير العام للحركة (باقان أموم) ونائبه لقطاع الجنوب كوزراء في الحكومة الإقليمية كخرق سافر للمادة (4) من الفصل التاسع من دستور الحركة. وهذا في نظره يمثل شاهداً على سيادة الجهاز التنفيذي على حساب نفوذ الحركة ك(تنظيم) والذي بدأ يتقلص تدريجياً، فنبذت قيادات الحركة العمل التنظيمي وفضلت الهجرة إلى مقاعد الحكومة «التي تملك مفاتيح السلطة والثروة» كما قال. ü أما بالنسبة لقطاع الشمال وأوضاعه التي تمثل لحمة وسداة ورقة الواثق الجديدة، خصوصاً لجهة الهواجس والتوجسات التي بدأت تأخذ بألباب الشماليين بالحركة وطبيعة تمثيلهم في قيادة الحركة وفي الجهاز التنفيذي، والتي رفع الواثق «مذكرة ضافية» بشأنها لقيادة الحركة ولم تجد أي صدى أو استجابة من تلك القيادة، فإن الواثق يقول: إن تمثيل قطاع الشمال بالحركة لايتطابق مع المفهوم الجغرافي لشمال السودان، إذ يضم القطاع الولايات الثلاثة عشرة الشمالية، فيما عدا النيل الأزرق وجنوب كردفان والتي تتبع تنظيمياً ل«قطاع الجنوب» -وهذه في حد ذاتها معلومة وحقيقة لافتة بالنسبة لي تتصل بالنوايا والخطط المستقبلية، فإذا كان مفهوماً إلحاق «أبيي» بقطاع الجنوب، فكيف لنا أن نفهم إلحاق جنوب كردفان والنيل الأزرق بذلك القطاع؟!- وفي هذا الصدد يواصل الواثق: تم تمثيل القطاع أو (بالأحرى الشماليون) بنسبة (2-1) أي ما يعادل ثلث العضوية في المؤتمر العام الثاني البالغة عضويته (1500) عضواً، كما هم ممثلون بنفس النسبة في مجلس التحرير القومي، لكن الحركة امتنعت عن الالتزام بهذه النسبة في تشكيلة المكتب السياسي (الهيئة القيادية العليا) للحركة، إذ تم تمثيلهم ب«أربعة أعضاء» فقط من جملة «27» هم أعضاء المكتب السياسي. وذهب الواثق إلى أن التفسير الوحيد لهذه (المفارقة)، هو عدم «وجود قواعد مقاتلة» يُعتد بها للشماليين في صفوف الجيش الشعبي أو «أراضٍ محررة» كما لرفاقهم في جبال النوبة والأنقسنا. ومع تفهمه لهذا المنطق إلا أن الواثق يرى أن تطبيق نفس النسبة في المكتب السياسي كان سيعنى تحلِّياً بروح التمثيل العادل، وكان سيعطي رسالة قوية بالشمول والتماسك ووحدة الحركة. وسيبعد بالتالي شبهة «التمثيل المظهري» لقطاع الشمال وقيادته الذين اقتصر دورهم -كما قال- على مباركة القرارات وفرضها من أعلى إلى أسفل على القواعد وكأنها «تعليمات». ü أما في ما يتصل بقرار مقاطعة الانتخابات الأخيرة، فيفيدنا الواثق بأن القرار الذي «تم سبكه خارج الأطر المؤسسية للحركة»، بما في ذلك مؤسسات قطاع الشمال، قد أحدث ربكة واضطراباً، مما أفضى في نهاية الأمر إلى عزل القيادات عن قواعدها، وإلى خلق وضع شاذ انعكس في وجود قطاع الجنوب بالحركة داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية للدولة، بينما أضحى قطاع الشمال خارج هذه المؤسسات. ليتساءل، من ثم، عن دور القطاع في هذه المرحلة التاريخية الحرجة التي تسبق الاستفتاء على تقرير المصير وعن أهدافه، وما إذا كان سيتحول إلى حزب معارض قائم بذاته أم ستصبح الحركة حركتين إحداهما «جنوبية» والأخرى «شمالية»؟ وليجيب في ختام ورقته، بأن الحركة التي عرفها موحدة تجمع في ثناياها مختلف القوميات والتيارات السياسية المؤمنة برؤية السودان الجديد، فإن هجرها كيانها المؤسس أو أي من كياناتها، سينفرط عقدها كيفما انشطرت البلاد إلى جزئين أو تمزقت وتفتت. فشرط تحقيق رؤية السودان الجديد على أرض الواقع هو «المحافظة على البلاد موحدة، ولو على أسس جديدة، وحالم من يظن أن الحركة الشعبية قابلة للحياة في «سودانات متعددة»، أو كما قال.ومع ذلك بدا أن لدكتور الواثق أملاً في إصلاح الحال، وإلا لما رفع مطلبين يراهما ضروريَيْن للخروج من دوامة الارتباك التي تعيشها الحركة، أول تلك المطالب: هو قيام قطاع الشمال بمراجعة شاملة لتجربته السياسية والتنظيمية، استجابة لمقتضيات مسؤوليته أمام عضويته ومناصري الحركة عموماً، وذلك من خلال الدعوة إلى مؤتمر عام على مستوى القطاع للحوار ولمناقشة معادلة الوحدة والانفصال وموقف الحركة من خياري الاستفتاء على حق تقرير المصير، إضافة إلى التفاكر بعيد النظر حول مصير القطاع في حالة الانفصال، وثانيها: المثابرة على المطالبة بانعقاد مجلس التحرير القومي (برلمان الحركة) للحوار الجاد والصريح حول موقف الحركة من الاستفتاء على حق تقرير المصير ومن وحدة البلاد، ولحوار عميق ونقاش صريح أيضاً حول حاضر الحركة الشعبية وسيناريوهات المستقبل.في الختام أخشى أن يكون مصير مداخلة الواثق و ورقته الجديدة كمصير تلك المذكرة التي رفعها إلى قيادة الحركة في أعقاب المؤتمر الثاني والتي لم تلق صدى أو رداً بالسلب أو الإيجاب حتى اليوم، وحتى لا ينطبق على نصائحه ونداءاته قول المثل: أسمعت إذ ناديت حيَّاً، ليس بسبب مفارقة المعنيين للحياة كما تشير خاتمة المثل العربي، ولكن لأن «الوقت قد فات»، وأناخ القوم إبلهم حيث يحبون، كما تشي تصريحاتهم طوال السنوات الأخيرة، وهذا ما يخشاه جميع السودانيين في مواجهة امتحان تقرير المصير، حتى بدأ اليأس يتسرب إلى نفوسهم ولسان حالهم يقول «كتلوك.. ولا جوك جوك»!