كثيرة هي تلك الانتفاضات الشعبية التي انطلقت وهبت لتحقيق مباديء الحرية والكرامة والعدالة والشرف وانتصرت على الطغاة وحطمتهم، لذلك لا نعجب إذا ما استمرت هذه الثورات عبر الأجيال ونادت بالحريات والإخاء والمساواة في العيش، وبالعدالة الاجتماعية والديمقراطية. ونداءات الثائرين في مجمل هذه الانتفاضات، قد تكررت من أجل تحقيق هذه الأهداف كلما وجدوا المظالم والقهر ومن خان الشرف.. وهنا يحدث ما يهيج الجراح، فيصرخ الناس وينادون بالثورة على الاستبداد والمستبدين وعلى المنحرفين واللصوص. وفي حكايات الثورات والثوار، تعلمنا فصولاً عن من قيّد الحريات، وفصولاً عن من أعلى السفلة وكافح الشرفاء وطارد الأحرار وكان حريصاً على حماية «القوادين والسماسرة» ليعلو زهوه بالاستبداد والإجرام.. ورأينا أيضاً في واجهة الأحرار كتاباً وأدباء أقوياء نادوا بمقاومة الاستبداد، وحرصوا على أن نكتسب القيم الأخلاقية، وأشادوا بالحريات والفضائل، ومن هؤلاء الكاتب العربي القدير سلامة موسى القائل في كتابه (الثورات): «ليست الحرية والشرف، والحب، والعدالة من المباديء الميتة الراكدة، إذ هي مباديء مكافحة متجددة، وتحتاج إلى الحراسة الدائمة والبعث المتوالي حتى تعم البشر، وحتى تربي الإنسان على أن يكون إنسانياً..». ومجّد الكاتب والأدباء العديد من الثورات التي أحيت المباديء وحققت المكاسب لشعوبها، كما مجّد هؤلاء شهداءها وأبطالها في فصول تاريخها الواسع بحرارة، وأكبروا شهادة الثائر وما احتفت به نفسه من خصال رفيعة، وما احتقن به من قهر وظلم وتعسف، ويعترف الجميع بثوار عديدين كالأفغاني، وأدهم الشرقاوي، وفولتير، وروسو، وديدرو، وأحمد عرابي، والكواكبي، وعلي بن غطاهم، ومحمد الدغباجي، والمنبي الجرجار، وعبد الكريم الخطابي، وعمر المختار وأقرانهم من الرجال الصادقين الأحرار. فهؤلاء صمدوا وواجهوا التحديات واعتزوا بما ينبغي أن يسود لكي يتسنى للإنسان أن يحيا حياة كريمة ملؤها الرأي الحر، وإلغاء فساد وزيف السماسرة والمفسدين والظلمة. واليوم وفي مشهد متواليات الأيام، نعيش في فصل جديد من ثورات الشعوب العربية، هي ثورة مجيدة في وطننا الحبيب، وتنادي بالديمقراطية وبمجتمع الكفاية والعدل والحريات. وهذه الثورة أضاءت لنا طرائق الخير، وعبرت عن أطياف الشعب، ونادت بمقاومة الاستبداد وفتحت أعيننا على نماذج من زيف حياتنا، بإعلاء شأن اللصوص والسفلة، ومن كانت غاياتهم تحكم المفسدين في شؤوننا لنظل مرضى على الدوام، ولا نناقش الحقائق بحرية وصفاء نفس، ولكي ننسى مقولة (مالتون) القائل (الحرية هي خير المدارس للفضيلة). أجل أن ما نراه من انتفاضة في الشارع التونسي، هو ثورة عجيبة بحق، وسوف تلقى هذه الثورة عناية كبرى من طرف أحرار العالم لأنها ثورة بنيت على الحق، ولذلك رفعت من شأن التونسيين جميعاً أمام أحرار العالم المتحضر، وباركتها العقول والقلوب، وألهمت الشباب إلى الاحتقان بالمباديء، وإلى مقاومة الكبت وأساليب المغالطة، وخرج الشباب فيها- وحباً لهذا الوطن- منادياً بالحريات، وأصواته تهتف بإنصاف العاطلين والمقهورين والمقموعين! إنها الثورة بحق..! وإني لفخور بهذه الثورة وقد أعادتني إلى أيام الشباب، وإلى ذكريات أليمة عشتها مع أسرتي في ظلم حكم استبد بالأحرار والشرفاء. فقد فرض عليّ أن أعيش في ظل «القائمة السوداء» لمدة تزيد عن 24 عاماً، واضطررت أن أطلب التقاعد وسني 49 عاماً، عشت لسنوات عديدة مراقباً لما كنت أكتبه، ومحروماً من المشاركة في الحياة الثقافية.. وكان هذا بإيعاز من منصور السخيري، ثم من عبد الوهاب عبد الله، وهو الذي ضرب عليّ حصاراً عندما كان ناطقاً رسمياً في الرئاسة. وكان القصد هو: أن أموت في السر وأن أحنط في «فكر كلماتي»، وكان اعتقادهم هذا هو اعتقاد مريب حقاً! وما أطلبه اليوم من الثورة الشعبية المجيدة هو: أن تطلق حريتي وسراح كتابي المعنون «بالرؤية الإبداعية في أدب محمد مزالي»، والذي كتب مقدمة له الكاتب الكبير توفيق الحكيم، فقد طال اعتقال هذا الكتاب أكثر من 24 عاماً، وما زال إلى اليوم لم يرَ النور، وأن تفتح وزارة الداخلية بحثاً في الصحف التي هاجمتني مراراً طيلة العهد البائد المريب، حينما يتسنى لها فتح فضائح المأجورين من الكتاب مِنْ مَنْ استوعبهم النظام البائد في ممارسة تشويه صورة كتابنا الأوفياء لوطننا الحبيب ولقيمه النبيلة الرائدة. ü أديب وكاتب من تونس