ربما لم تحن فرصة لحكومة السودان لإيجاد تسوية سياسية للأزمة المشتعلة في دارفور منذ عدة سنوات مثلما حانت الآن، فاغتيال زعيم حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم، ومن قبله اختفاء العقيد الليبي معمر القذافي الذي كان عاملاً مشتركًا في كل الأزمات التي حاقت بالسودان منذ ميلاد الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1984، نهاية بدعمه للتمرد الذي قاده إبراهيم في مايو 2008 لإسقاط نظام البشير والاستيلاء على الخرطوم، فضلاً عن إسباغه الرعاية على جميع حركات التمرد في دارفور، كأنه لم يكتف بانفصال جنوب السودان، فسعى لتكرار نفس السيناريو في الإقليم الغربي المضطرب. الداعم الرئيس غياب القذافي وخليل إبراهيم عن الساحة يقدم فرصة ذهبية لعودة السلام إلى الإقليم المضطرب منذ عقد تقريبًا، لا سيما أن النظام الليبي السابق كان حريصًا على استمرار الاضطرابات في جميع جنبات السودان، علَّ ذلك يؤمن له الهيمنة على الداخل السوداني، باعتبار أن هذا النظام البائد لم يترك فرصة لعرقلة جميع جهود إحلال السلام في الإقليم- ومنها مسار الدوحة بعد غضبه الشديد على تجاهل أطراف الأزمة التعاطي الإيجابي مع جميع مبادراته لحلحلة الصراع في الإقليم- إلا وأقدم عليها، فعمد إلى تقديم ملاذ آمن لزعيم التمرد بعد أن ضيق تطبيع العلاقات بين البشير وإدريس اديبي الخناق عليه. فلا شك أن تأثير إبراهيم في مقاتلي حركة العدل المساواة كان كبيرًا، وكذلك قدرته على حشد الدعم السياسي والمالي للحركة كان لافتًا، وعلى العمل على الأرض تبنى أطروحات مفاجئة للحكومة في الخرطوم، على غرار ما حدث في محاولة اقتحام العاصمة الخرطوم منذ عدة سنوات بدعم لوجيستي من نظام القذافي المخلوع، وهي المحاولة التي كان يتأهب لتكرارها خلال الفترة الأخيرة، لخلط الأوراق، وإحداث تغيير استراتيجي في أوراق اللعبة، وهي قدرات لن تستطيع حركته تعويضها خلال المرحلة القادمة على الأقل، لاسيما من جهة تأمين تمويل إقليمي ودولي لأجندتها. طموحات بلا حدود خليل الذي كانت طموحاته لا تقتصر فقط على إقليم دارفور، بل كان يرى نفسه مؤهلاً لحكم السودان، ستجد حركته لفترة طويلة نفسها عاجزة عن امتصاص هذه الضربة، وعاجزة كذلك عن توفير تمويل لصراعها مع الخرطوم بعد توقف الأطراف الكلاسيكية الداعمة لها في تشاد وأوغندا وأفريقيا الوسطى وسقوط الراعي الرئيسي في الغرب، ولم يبق هناك داعم لها سوى حكومة جنوب السودان، والتي قد تجد نفسها مضطرة للتخلي عن الحركة في حال حصول تسوية مع الخرطوم حول عدد من الملفات المثيرة للجدل، وهي أمر قد يجبر الحركة على التعاطي بإيجابية مع عروض السلام المنهالة عليها، لاسيما إذا أحسنت الخرطوم التعامل مع المستجدات على الأرض. الصعوبات التي تواجه العدل والمساواة لن تتوقف عند شح الموارد المالية، بل إن تصفية إبراهيم قد تدفع الحكومة السودانية للتصعيد وتكثيف هجماتها على معاقل حركة العدل والمساواة، التي لم يعد لها من فناء خلفي للتحرك ضد الخرطوم إلا من جهة جنوب السودان، واستغلال حالة الارتباك التي تواجهها بعد إبراهيم، حيث ستفقد الحركة زمام المبادرة، وستعمل الحكومة السودانية على تضيق الخناق عليها عسكريا، عبر تكثيف القصف واستهداف رموزها ثم حصارها بخطاب السلام، لإجبارها على التوقيع على اتفاق الدوحة، وتحييدها في الصراع التي ستدخله الخرطوم مع قوات عبد الواحد محمد نور، التي تتمترس حاليًا في جبال دارفور، رافضة الدخول في صراع حاليًا مع حكومة البشير حتى إشعار آخر. زمام المبادرة ومع هذا فمن المهم الإشارة إلى أن غياب إبراهيم عن الساحة يفتح الباب أمام جميع الخيارات، فهناك من يرى أن العدل والمساواة قد تحاول استعادة زمام المبادرة، والعمل على تطويق تداعيات تصفية إبراهيم، وشن هجمات مكثفة على أهداف حكومية، وإشعال اضطرابات في جنبات الإقليم والتوسع في عمليات السلب والنهب وترويع المواطنين، لتعويض تراجع الدعم الليبي لها، رغم أن تسريبات تشير إلى أن الحركة تستطيع -وعبر الدعم المالي السخي الذي تلقته عقب اشتعال ثورة السابع عشر من فبراير في ليبيا- الصمود لفترة ليست بالقصيرة، إذا وضعنا في الاعتبار حجم الأموال الطائلة التي قدمت لزعيم العدل والمساواة، لضمان دعم نظام القذافي في المعركة ضد الثوار، وعدم التخلي عن نظامه المتداعي حينذاك. ضغوط وملاحقة غير أن استمرار الحركة في تبني نهج الصدام مع النظام السوداني قد تكون لها تأثيرات عكسية على العدل والمساواة، فالخرطوم قد لا تعطيها الفرصة لاستعادة زمام المبادرة مجددًا، مراهنة على دعم بلدان الحوار التي تتعامل مع الحركة ومقاتليها حاليًا كورقة محروقة، مما قد يدفعها للتعاون مع الخرطوم لملاحقة قادتها وشل قدراتهم، خصوصًا أن الحركة كانت تعتمد على النظام الليبي المقبور كرئة لها بعد انفضاض الأنصار عنها، وإغلاق الجبهات الأخرى أمامها، في ظل صعوبة الرهان على دعم شحيح من حكومة سيلفاكير في الجنوب فقط. تربص صهيوني انفضاض الأنصار عن العدل والمساواة قد لا يكون أمرا إيجابيا في كل الأحوال؛ بل قد يدفع الحركة للبحث عن حليف استراتيجي يعوضها عن الكارثة التي حلت بها بعد غياب القذافي وخليل إبراهيم، وقد لا تجد الحركة صعوبة في إيجاد هذا الحليف، خصوصا مع تربص الدولة العبرية بالسودان، وسعيها لتفتيته، وعدم الاقتصار فقط على انفصال الجنوب، في ظل ما تردد من أن زعيمها الراحل كان قد زار الدولة العبرية عام 2009 بجواز سفر تشادي، وحصل خلال هذه الرحلة على دعم لوجيستي قيم، ومؤن عسكرية، ساعدته في الصراع المحتدم مع الخرطوم، وهو أمر قد ترغب إسرائيل في استمراره، في ظل تركيز حكومة بنيامين نتنياهو في اكتساب أرضية جديدة في القارة الأفريقية والسودان خصوصا، لا سيما أنها استقبلت رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير مؤخرًا، فيما يستعد نتنياهو لجولة موسعة في دول الجوار السوداني، لتكريس هيمنة الدولة العبرية في عدد لا بأس به من دول القارة السمراء، وهي هيمنة سيكون السودان أول من يسدد فاتورتها من أمنه واستقراره. إذا كان خيار تصعيد التوتر في إقليم دارفور واردا في ظل تربص الدول الغربية بالسودان فإن السلام يبقى واردا أيضا على ضوء تحديد هوية من سيخلف زعيم حركة العدالة والمساواة في قيادة الحركة، والمرجح أن يكون جبريل إبراهيم، وهي خلافة تثير عدة تساؤلات، منها: هل ستسير القيادة الجديدة في نفس المسار الذي حدده إبراهيم لنفسه من العمل على الوصول للحكم في الخرطوم؟ أم ستسعى هذه القيادة للبحث عن سبل للوصول لتسوية سياسية في دارفور؟ وعلى أساس أي الخيارين ستنحو القيادة فإن الإجابة ستحدد مصير قضية دارفور بشكل كبير، في ظل غموض الموقف بشأن مآل الأحداث، لا سيما أن قوات عبد الواحد لا زالت قادرة على أن تسبب الكثير من الإزعاج للخرطوم، خصوصا إذا وضعت يديها في يد خليفة إبراهيم لمنع نظام البشير من استعادة أرضيته في كامل التراب الدارفوري. بعثرة الأوراق ولا يُعد سيناريو حدوث توافق بين فلول حركة التمرد أمرا صعبا، والعودة إلى توجيه ضربات شديدة لمواقع الحكومة السودانية، فإن الأخيرة تبدو قادرة على بعثرة جميع أوراق التمرد، عبر تبني لغة خطاب متوازن يتبنى السلام كخيار استراتيجي في الإقليم، عبر مشروع وطني تنموي متكامل، ولا يتجاهل الأوراق الأخرى، كالحسم العسكري كخيار لتسوية الأزمة إلا أن الأمر يتطلب مع هذا تعاطيا من نوع جديد مع الأزمة، بعيدا عن أجواء التشفي والاغترار بالنصر الأخير، لا سيما أن مثل هذه الأجواء قد تعقد المشهد، وتفتح الباب على مصراعيه لعودة شلالات الدماء. تساؤلات ضرورية لذا، فمن المهم الإشارة إلى أن مقتل خليل لا يعني بكل تأكيد نهاية حركته وحركات التمرد في دارفور؛ بل إن هذا الحادث قد يكون بداية لزيادة التوتر في الإقليم، خصوصا إذا لم تستطع الحكومة استغلاله جيدا، وتسوِّقه بأن نهاية إبراهيم هي نهاية كل من يراهن على العنف كخيار لحل الأزمة، خصوصا أن حركة العدل المساواة ستجد صعوبة بالغة في تعويض الغياب المفاجئ لزعيمها، وهو غياب يطرح عدة تساؤلات، منها: هل العدل والمساواة حركة معارضة تملك منفستو واضحا؟ أم مجرد ميلشيا تابعة لإبراهيم تنهار مع غيابه؟ وهل هي قادرة على تعويض هذا الغياب عبر صف ثانٍ؟ وما مدى إمكانية صمودها أمام تلويح الخرطوم لها بالعصا والجزرة، في ظل غياب الدعم الليبي؟ وهل هي على موعد مع السلام أم على أعتاب فصل جديد من الأزمة؟.. هذه أسئلة ستحدد الإجابة عليها مصير الأوضاع في الإقليم.