نمر في حياتنا على كثير من الامثال والحكم التي تلخص لنا العديد من التجارب والمواقف التي عاصرها من سبقونا وهي امثال وحكم لم تأت من فراغ بل هي نتاج لتفاعلات النفس البشرية مع معطيات الحياة، خيرها وشرها، وما علينا، نحن اللاحقون، سوى اخذها بعين الاعتبار والتدبر في مقاصدها، ومعانيها ومآلاتها ومدلولاتها.. وهي كذلك فمنا من يتعظ بها ومنا من يمر عليها مر الكرام.. ودائماً ما يعجبني من تلك الامثال مثل روسي يقول بأن «تعفن السمكة يبدأ من الرأس» ولعل ما يقابله من امثالنا العربية المثل القائل «اذا كان رب البيت بالدف ضارب.. فشيمة اهل البيت كلهم الرقص».. فاذا ما تأملنا في سير الحضارات التي سادت من قبل ثم بادت.. واذا ما تأملنا ايضاً في حال الانظمة العربية والافريقية التي تهاوت في الاونة الاخيرة نجد ان جميعها قد اشترك في خاصية واحدة وهي ان التعفن الذي رمى بها في مزبلة التاريخ قد بدأ فيها من الرأس، اي من الحكام انفسهم، ثم سرى بعد ذلك ليقضي على البقية الباقية من حكمهم.. فلننظر معاً الى صدام.. والى زين العابدين.. ثم القذافي وحسني مبارك.. وعلي صالح ورئيس السنغال السابق.. حيث نجد ان الفساد والتعفن قد ابتدأ منهم ثم انداح الى اسفل ليشمل باقي انظمتهم.. فجميعهم قد اشتركوا في غض الطرف عن فساد ابنائهم او زوجاتهم او اخوانهم او معاونيهم لانهم كانوا في اصلهم فاسدين ومتعفنين في ذواتهم اذ اعمالهم حب السلطة والشهوة العارمة للحكم، وهو بداية التعفن، عن الاعتراف بوجود الفساد وتنقله في اوصال انظمتهم، وبالتالي عجزوا عن ايقافه والسيطرة عليه لانهم كانوا يخدعون الناس بصلاح انظمتهم وما كانوا بخادعين لاحد سوى انفسهم، وظنوا بأنهم باقون على كراسي السلطة الى ابد الابدين فكانوا من الذين نسوا الله فانساهم انفسهم حتى زلزلت الارض من تحت اقدامهم.. ولننظر الى نهاية كل واحد منهم والى الحالة التي ظهر بها مكشوف الحال امام العالمين فكم كانت نهاياتهم مزرية، وكم كانت مهينة، وكم كانت مخزية.. اما صدام، اسد الرافدين، فقد انتهى به الامر الى حفرة في باطن الارض اخرج منها اشعث اغبر كأنه شيطان رجيم.. وزين العابدين بن علي الذي وجد نفسه طائراً في السماء تتقاذفه الاجواء لا يدري اين يستقر طائرة لولا رحمة لحقت به من خادم الحرمين الشريفين.. اما القذافي، ملك ملوك افريقيا، الذي وصف شعبه بانهم مجموعة، من الجرذان فقد صار هو الجرذ الاكبر اذ تخبأ في مجاري سرت حيث انتهى به الحال الى ابشع نهاية شهدها العالم اجمع على قناة «اليوتيوب»، نهاية انتهكت فيها حرمته وقتل فيها بلا رأفة وبلا رحمة كجرذ لا قيمة له، ولم يرعو فيه الا ولا ذمة.. اما على صالح فقد احرق وجهه فصار مسخاً مشوهاً ولم يزل يتشبث بالسلطة بيديه ورجليه.. ورئيس ساحل العاج الذي جيء به مخفوراً وهو «بفنيلته» الداخلية فبدا للعالم كمشرد صعلوك لا يسوي فلساً.. واما الفرعون الاكبر، حسني مبارك، فقد تضاءل وتقاذم حتى اصبح حاله حال طفل صغير دائم البكاء فيا سبحان الله.. كيف كانوا بالامس وكيف اصبحوا اليوم.. سكنوا القصور وادمنوا حياة السلطة الحلوة.. وعاشوا حياة الدعة والرفاهية، فتعفنوا، وانتقل عفنهم الى اهلهم، زوجاتهم وابنائهم واخوانهم، والى المطرزية والسدنة من حواليهم.. فكان للزوجات، كزوجة حسني مبارك على سبيل المثال لا الحصر، انشاءت منظمة خيرية تربحت منها تربحاً غير مشروع كشفته الاموال البريطانية التي اهديت لمنظمتها فلهفتها ولم تستحي لها عين، وكان للابناء استغلال البنوة، ومثالهم ابناء صدام والقذافي الذين تسلطوا على رقاب الناس وعاثوا في الارض فساد بحرام اموالهم، وكان للاخوان، كاخوان علي صالح وعشيرته، حق الحصول على القروض البنكية وانشاء الشركات وتنمية ثرواتهم لمجرد انهم اخوة الرئيس وعشيرته التي تؤيه، وكان للمساعدين من وزراء وولاة يد مطلقة على رقاب الناس واموال الدولة فاستباحوها على عينك يا تاجر.. شي شركات.. وشي بدلات.. وشي علاوات.. وشي بيرديم بالعملات الصعبة في السفر.. وكله بالقانون ومحمي بالامن والشرطة والجيش، اذا لزم الامر.. ولأن التعفن كان قد ابتدأ بهم، كانوا يابدرون بنفي الفساد عن انظمتهم.. وكانوا يطالبون من يشيرون الى وجود الفساد بتقديم الدليل عليه بينما كان الفساد يجري تحت اعينهم ولكن لا يبصرون.. فالعين الفاسدة لا تبصر الفساد.. والانف المتعفن لا يشم رائحة العفن.. و«المكتولة ما بتسمع الصايحة» وظلوا على ذلك حتى جادت ساعة «النزع» وما ذكر «النزع» يجدو بي ان اشاء اخي الحبيب محجوب فضيل قنصلنا الاسبق ببريطانيا، اذ لفت نظري من قبل الى التمعن في حقيقة ان الله «يؤتي» الملك من يشاء.. و«ينزع» الملك ممن يشاء وشتان ما بين «الايتاء» و«النزع».. اذ يكون «الايتاء» في سهولة ويسر بينما يتم «النزع» عنوة.. وفيه شدة وغلظة.. وربما تصحبه مهانة وذلة بسبب مقاومة المنزوع منه للنزع.. فالملك الذي لا يرعاه صاحبه بحقه ينزع منه كما تنزع الروح من الجسد.. ولعلي في هذا المقام اقف واجلالاً واكباراً للمرحوم الفريق ابراهيم عبود وللمشير عبد الرحمن سوار الذهب لزهدهما في السلطة التي تمتعا بها الا انها لم تعرهما فصارا بذلك خير الناس. أما هذه كانت رؤوس متعفنة وقد طاحت.. وتلك انظمة قد خلت.. ولكن لا تزال هنالك رؤوساً اصابها عفن السمكة» في العالمين العربي والافريقي تصر على السير على ذات نهج الرؤوس التي طاحت.. والانظمة التي تهاوت.. وذلك حذو النعل بالنعل دون التوقف لمراجعة النفس واستلهام الدروس والعبر لضبط امسير.. اذ يصرون على التعامي عن الفساد الواضح امامهم والذي يتمثل في الثروات المتضخمة بفحش لزوجاتهم وابناءهم واخوانهم ومساعديهم.. ولا يزالون ينفون الفساد عمن يدورون في فلكهم.. ولا يزال الخدام والكهنة.. يزينون الحال للرؤوس المتعفنة.. ويوهموهم بأن كل شيء (nnder control) وقد نسوا بأن «الكنترول» كله عند رب العالمين الذي يمهل ولا يهمل.. ونسوا ان يوم الحساب لا ينقضي حتى يقتص سبحانه وتعالى للنطيحة من الناطحة.. يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم فأني لقلوبهم الاثمة.. ولتنظر كل امة في مدى انطباق المثل الروسي على حكامها.. فإن لم ينطبق.. فنعما لهم.. وان انطبق فليبشروا بأن ساعة «النزع» اتية لا ريب فيها.. الحديث.. «البر لا يبلى.. والدهر لا يفنى.. والديان لا يموت.. افل ما شئت.. فكما تدين تدان».. والله خير الحاكمين.