رحم الله الإمام الشافعي شاعر الحكمة وإمام المواعظ حين قال: دع الأيام تفعل ما تشاء*** وطب نفساً إذا حكم القضاء ولا تجزع لحادثة الليالي ***فما لحوادث الدنيا بقاء ü حقاً وصدقاً إمامنا وإمام أهل السنة، أنها لكلمات تسطر بماء الذهب، لأنها الحياة كما وصفها سيد الهدى والبشرية- صلوات ربي وسلامه عليه- (الدنيا ملعونة، وملعون من فيها) أو كما قال: ü فبداية ذي بدء نعلنها مدوية بأننا ندين العنف، وقتل النفس التي حرمها المولى إلا بالحق، وبكافة أشكال العنف والقتل، ومن أي جهة كانت، لأن النفس البشرية مكرمة ومصانة بكافة الشرائع السماوية التي انزلها المولى تترى على رسله، حتى ختم وشدد بالحفاظ عليها في الدين الخاتم، والنبي الأمي الذي أرسل رحمة للعاملين. ü ولكن العجب - العجب - بل العجب العجاب بل العجب حتي لا ينتهي العجب في شهر رجب. ü ما أرخص النفس السورية وهوانها على الناس، وبالأخص على أبناء جلدتها من حكام العرب والمسلمين، والعالم أجمع على وجه العموم، ومن الطبقة القابضة على سدة الحكم في بلادنا الجريحة على وجهة الخصوص. ü فقبل أن أحكي الحكاية من البداية للنهاية.. أود أن أوضح أن (عثمان) هو كل سوري مكلوم مجروح القلب بفقد الأبناء، والأهل، وأفراد العشيرة، وهو النموذج لما يحصل في بلاد الشام في وسط الظهيرة، وعلى مرأى ومسمع من الإنسانية جمعاء من الكبير للصغير، دون أن يهتز لهم رمش أو أن يتحرك للحق ضميره. ففي زحمة الأحداث والمظاهرات قتل ولد أخته الذي لا يتجاوز عمره الثامنة عشر ربيعاً، بعد أن طاردت قوات الأمن المظاهرة الشبابية.. فأصيب بطلق ناري في قدمه أجبره على السقوط، وعندما وصلوه وجوده ينطق الشهادة، وتم القبض عليه، حتى فجع القوم باليوم التالي بأنه استشهد؟! قدر الله ولا راد لقضائه، فهذه ساعته وهذه خاتمته، ولكن ما أوجع القلب وجعل الدموع تتحجر في المقل، بأن القوم أرادوا تشييعه من منزل جده الذي رباه كابنائه، فأتت الجموع من الشيب والشباب والنساء والأطفال، ولا نسمع من الرجال سوى الهتافات المدوية، ومن النساء النحيب، وحسب كل الأعراف والمشاعر الإنسانية، أنه مثل الموقف المهيب ينسى الإنسان الضغائن، وحتى لو كان مع الأهل المفجوعين على خلاف، فلابد أن ينساه ولصرخاتهم يستجيب. ü فحصل ما لم يخطر على قلب بشر، فبدل أن يتركوهم يعبرون عن حزنهم ومصابهم، ويوارون فتاهم الثرى الذي بعمر الزهور التي تفتحت في الصباح، وتلاشت مع ميول الشمس للأفول بالمغيب، فتحت نفس الأجهزة غازاتها بعد أن حاصرت المكان، سالت الدموع وتحشرجت أنفاس الحرائر والصبية، فما كان من الجد الذي تجاوز السبعين من العمر وأصبح في خريف الحياة، ولم يسمع عنه في بلده وأهله سوى التقوى الطيبة التي تصل إلى درجة المسكنة، إلا أن اندفع مسرعاً تجاه قوات الأمن وهو يلوح بيده (أرجوكم!! انتظروا!! لا تطلقوا النار) ودعوني اتصرف، فما بربكم كان الجواب؟! طلقة حية في الرقبة أردته أرضاً، وهو ينتفض ولسان حاله يقول على تجاعيد وجهة الهرم.. ماذا صنعت بكم حتى تردوا بهذه الطريقة لي التحية؟ الست مكلوماً بولدي الذي قتلتموه ما بين صبحة وعشية؟ هل عهدتموني متآمراً مع أي شعبة من المخابرات الأجنبية؟ أو لم اخدم الوطن أربعين سنة بكل أمانة، وأؤدي لعلم الوطني يومياً التحية؟ والله لم أخن الأمانة ولم أربِ أولادي إلا على حب هذا الثرى، وزرعت فيهم الروح الوطنية؟ فانظروا اليهم منهم الدكتور، والمهندس، والمعلم، والبنات كلهم على خطاي يمشين بكل حياء وتجلة وأسألوا عنهم معلماتهن واطقمهن المدرسية. ü عفواً أبا عثمان لم تكتمل بعد سلسلة الحصاد لأنفسكم البشرية الحرة. ü فعندما رأى ولده المهندس أباه يفترش الثرى مضرجاً بدمه، وتفوح منه رائحة زكية، اندفع كالسهم مسرعاً (أبي أبي)، وإذا بيد الغدر- التي اسأل الله أن يقطعها من الكتف- وأن لا يجعل لأحد بعدهم عليها من سبيل تطاله بطلقة في الوجه، فانكب بجانب والده ولسان حاله يقول: (لم أشأ أن أكون واقفاً وأنت تفترش الثرى يا والدي! فكم تشبهت بك وأنا في بداياتي، وتمنيت أن تكون مشيتي كمشيتك، وتسريحتي كتسريحتك، وحتى لون ملابسي كنت ارتديها بلون ملابسك، أو أتركك الآن وأنت تنزف دماً،، والذي نفسي بيده، فدتك روحي وأولادي، وليس للحياة بعد عينيك قيمة، فباطن الأرض أخير عندي من ظاهرها، وأنت لست بعزة وصحة، فالآن يا أبتي تساوينا ولنترك للمولى في حالنا البقية.!! ü عندما انطلقت نفس الدكتور الذي تعلَّم بفقر، وعاش مع والد لا يعرف من هذه الزائلة إلا الرجولة والكرامة، والتسامح والتقوى، وبأن يقطع من لحم اكتافه لإطعامهم، حتى لا يحتاجون إلا رب العرش والبشرية، ومع أخ لازمه الفراش، والكراس، والهموم اليومية، حتى غديا روحاً واحدة في جسدين، لا ينفصلان إلا بأجسادهما، ولكن التحام مشاعرهم أبدية، فبدون تفكير وبصرخة مدوية رمى نفسه في مهب الريح باتجاهم (أبي - أخي)، فما كان من بطل الرماية، ومن تلك العناصر البربرية التي دمرت منذ عشرات السنين كل ما هو جميل في بلاد الشام، التي تظلها ملائكة الرحمن بأجنحتها وتحن إليها كل القلوب. ü ويحن إليها من يحمل في مورثاته حباً للرسالات السماوية، والي الينابيع النقية، والى الشعب الذي وزع للأرض المحبة والسلام، حتى غدا عنواناً لتقدم البشرية. ü فما كان منهم إلا أن رموه بطلقة نارية، ثم أخرى استقرت في الصدر والكتف، فارتمى بينهما بابتسامة. الله كم هو الوفاء للأخوة والأبوة، حتى يختار المرء نفس المصاب، وتتساوى عنده الحياة والموت فدوى لعينيكما، وهبت نفسي وفدوى لكل من في بلدي في قلبه ذرة من وطنية. ü أرجوكم أعفوني من الإسهاب في الشرع، فالمصاب جلل، فلقد تسمَّر اليراع في يدي، وتحشرج الصدر من وهج مشاعري، فدعوني أكمل بشكل مختصر أكثر: أُسعفوا بطريقة بدائية عبر اسطح المباني والأزقة الضيقة، وبعدها فاضت روح المهندس إلى بارئها زكية ندية، والوالد والدكتور مازالا في حالة سبات منذ شهور، حتى فجعت الأسرة أخيراً باعتقال المعلم الذي بقي ليكمل مسيرة والده ويربي اليتامي والأيامى ويعوضهم شوية. ü فبأي مشيئة عمرو بن هند؟ اتريد أن تقضي على الحرث والنسل في بلادنا سوريا؟ أو ليس من العار ألا ترحم أسرة كانت بالأمس القريب تهنأ بحياة سعيدة ومستورة بالكفاف، ولكن بفضل الله ومؤازرة الأخوان الذين يحملون في بلادنا هم الشعب، ومازالت في صدورهم النخوة العربية، وهم ورغم ما سردت هم الأكثرية من كل الطوائف العلوية الدرزية المسيحية والكردية والآشورية والسنية. ü فساعدوه ليخرج المعلم لأطفاله وللأيتام والثكالى، بعد سجن دام قرابة الشهر، خرج وقلبه محترق يسأل الجدران والجيران عن أخبار والده المصاب، وأخوه طريح الفراش، ويدعو الله أن لا يكونا فارقوه، ورحلوا إلى الحياة الأبدية، فعرف أنهم ما زالوا على حالهم، وبعد السلام والكلام ورؤية الغلمان، قرر في الصباح الانطلاق لهم، ففوجئا مع أول يوم لطلوع شمس الحرية عليه، بأن والده الذي رباه على المحبة والسلام، قد فارق الحياة بعد أن اطمأن أن ولي عهده الأمين قد خرج من السجن ليحمل الأمانة، وليسير في دروب هذه الحياة تتلاطمه أمواج الظلم والقهر من أبناء جلدته، الذين كانوا من المفروض أن يزرعوا على شفاهه وشفاه أطفاله البسمة ويردوا له جزءاً من الجميل لأنه لم يحملهم عبء أسرته، ولم يسرق رزق أبنائه، بل عاش على المرتب وما يهبه الله له من الأرض التي طالما صارعها لتعطيه من خيرات ربي، وتكفيه من سؤال البطون التي سرقت ولا تعرف للشبع معنى ولا هوية. ü انتهت الحكاية وعذراً لأني أعلم بأنكم تأثرتم، وجعلتكم تعيشون لحظة ألم، ولكن ما يحير القلب ويدمي الفؤاد أنه: ü إذا كانت هذه الدماء قد أريقت، وكل هذه العوائل قد فقدت سندها بعد الله. ü وإذا كانت الحلول كلها أمنية وبطش وتعذيب وتنكيل، وإذا كان الكرسي أطهر وأثمن من كل الدماء. ü وإن كانت النفس السورية رخيصة لهذه الدرجة- على اختلاف فئاتها وانتماء أصحابها من الشهباء إلى درعا الأبية، ومن الساحل وجيال العلويين إلى حدود العراق، ومن القامشلي إلى الفيحاء، ومن حمص العروبة والوفاء إلى حماة الفداء، ومن بانياس العزة والى قرى ريف الشام، الذي يحيط عاصمة الأمويين كالمعصم على ذراع العذراء في خدرها. ü وإذا كان لا يعنيني لو نطق الحجر، وانتحب الشجر، وانشق القمر، وجمع الشمس والقمر، فمن أحكم بعد الآن وكيف ستصبح المعاملة؟ وكيف أصبح بعد اليوم بطل المقاومة والمنازلة؟ ü لعن الله السياسة وسمر الله الدم في عروق المطبلين والمزمرين الذين يعيشون على دماء البشر، وقوت أولادهم، حتى يزينون للحاكم بأنه الحاكم بأمر الله وبأنه صاحب الحق والصولجان. ü وحقن الله دماء السوريين جميعاً، ومن أي أرض كانوا على ثرى هذا الوطن الطاهر، فوالله أن العين لتدمع والقلب ليخشع- كما قال سيد الهدى وإمام المرسلين- ونذكر في هذه السانحة الكتابية شعر الشاعر زكي قفعل وليسمح لي بالتصرف في شعره: قلبي وفيض دموعي كلما خطرتüüü ذكراك يا وطني خفاق وهتان لقد أعاد بها التاريخ ملحمةüüü أخرى وطاف بها للشر طوفان ولعثمان السوري كائن من كان أقول عثمان صبراًü ورحمة لأبيك فالقلب معك والرسول هداك. لكم أطيب المنى ولكم أن تفهموا كما تشاءون القضية