لابد لعائد مثلي من رحلة ممتدة لمصر، تابع فيها التطورات السياسية والاقتصادية والحراك الاجتماعي أن تنعقد في ذهنه صورة مقارنة لما يجري هناك وما يحدث هنا في بلادنا، خصوصاً وكلا البلدين قد شهد ويشهد تحولات كبرى بعضها بالإيجاب على الأغلب في مصر، وبعضها الآخر بالسلب على الأغلب في السودان.. وما يجعل مثل هذه المقارنة مهمة هو تلك الوشائج الخاصة والتأثير المتبادل لما يحدث في كل بلد من البلدين على الآخر، بما لا يستدعي أو يتطلب الشرح والتأكيد. برغم الهزة الكبرى والأحداث الجسام التي شهدتها مصر، وعطلت إلى حد كبير وعلى مدى شهور دولاب الحياة وشلت بعض أنشطة الدولة الرسمية، خصوصاً في قطاعات الأمن والاقتصاد وعطلت بعض المرافق الحيوية في مداخيل الدولة المصرية كالسياحة، إلا أن الأمن بدأ يعود تدريجياً والاقتصاد متماسك إلى حد كبير، بالرغم من شكوى رئيس الوزراء الجنزوري من عدم وفاء المانحين الأجانب والعرب بوعودهم لمصر في أعقاب انتصار ثورة (25) يناير.. فالجنيه المصري - إذا ما أخذناه كمؤشر- لا يزال يراوح في سعره المعتاد (6) جنيهات وقليل من القروش في مقابل الدولار ، بما ينعكس إيجاباً على ثبات الأسعار واستقرارها، ويحد من التضخم. كما تحولت القاهرة خلال عام الثورة إلى ورشة إعمار كبرى فتمكن القطاع الخاص من بناء ملايين الوحدات السكنية، ما يبشر بحل ضائقة الإسكان. ü وإذا ما انتقلنا من شمال الوادي إلى جنوبه لننظر إلى صورة الأمن والاقتصاد في السودان، نرى فرقاً واضحاً، فقد ألقى انشطار الجنوب عن الوطن الكبير إلى اختلالات هيكيلة أمنية واقتصادية، لا يعرف حتى من يحكمون البلاد ما ستنتهي إليه في خاتمة المطاف.. ويكفي في هذا الإشارة لما يشهده جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور ونيالا أخيراً، والتفلتات في الشرق التي لم تستثنِ حتى حياة والي الولاية محمد طاهر إيلا، أو ما يحدث في الشمال الأقصى من احتجاجات واعتصامات المناصير، مثلما تكفي الإشارة على الجبهة الاقتصادية إلى تدهور الجنيه السوداني مقابل العملات الصعبة والإعلان الرسمي، عبر أكثر من وسيلة من جانب الدولة، عن خواء الخزينة والافتقار إلى الاحتياطي النقدي الصعب، مما أضطر القائمين على الأمر على اتخاذ تدابير استثنائية بمنع المسافرين للعلاج أو التجارة أو السياحة من الاستفادة من ودائعهم الخاصة لدى البنوك، وحصر التحويلات في حدود الألف أو حتى خمسمائة دولار في حالة السفر إلى البلدان القريبة. وهذا وضع شاذ أعاد علاقة المواطن السوداني مع العملات الصعبة عقدين إلى الوراء، عندما بلغ الوضع بنظام الإنقاذ الوليد إلى إعدام الناس لأنهم يحوزون عملات صعبة خارج رقابة الدولة، كما أنه انعكس بصورة واضحة على أسعار الغذاء والدواء والكساء، وجل الاحتياجات الأساسية للمواطن السوداني. ü مصر، برغم الثورة وتداعياتها، لاتزال بلداً متماسكاً، والمركز لايزال ممسكاً بأطراف الدولة وأقاليمها ويتحكم بحركة الحياة والناس فيها من أقصى الصعيد إلى شواطئ المتوسط، ومن البحر الأحمر أو سينا شرقاً إلى الواحات الصحراوية غرباً. وتضاءلت التفلتات الأمنية والكمائن على الطرق التي كانت قبل شهور تؤرق المسافرين ليلاً عبر الطرق والمسارات البعيدة.. فالمواطن المصري لا يخشى الآن، مثلما كان في الماضي، من أن يرى بلده يتمزق أو يتحول إلى مجموعة دويلات متناحرة. ü في السودان، الأمر يختلف، حيث فقد الوطن الكبير ثلثه - بضربة واحدة هي نيفاشا- وهاهو يعيش حروبات في ثلاثة أجزاء أخرى، جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور، ومحاولات السيطرة العسكرية أو الحل السياسي لا يبدو أنها قدمت الوصفة المناسبة حتى الآن لإعادة الأمور إلى نصابها وبلوغ حالة التماسك الوطني المرجوة لخلق الاستقرار والرضا العام،ليتحرك دولاب العمل والحياة الاقتصادية في مساره الطبيعي.. ولا يبدو في الوقت ذاته أن القائمين على الأمر يملكون خططاً مدروسة أو إستراتيجية لكيفية مواجهة هذا الواقع المتردي، ويتعاملون معه بمنطق ردود الأفعال و«رزق اليوم باليوم»، وقد يكون أبلغ الأدلة في هذا الصدد ما نسمعه ونقرأه من التحركات الاحتجاجية والمذكرات الناقدة من داخل أروقة الحزب الحاكم والتي تدعو «لتصحيح المسار» أو المواجهات الدامية، كتلك التي تدور هذه الأيام في نيالا بين فريقين ينتميان للحزب الحاكم بين أنصار والٍ مقال ووالٍ معين، بالإضافة إلى التردي المضطرد في العلاقات بين شطري الوطن المنقسم شمالاً وجنوباً، على جميع المستويات ومنها العلاقات النفطية. ü على الجبهة السياسية، فإن مصر، وبرغم المفارقة التي انتجتها الانتخابات النيابية الأخيرة، بسيطرة التيارات الدينية على مجلس الشعب، فإن المواطن المصري عموماً والنخبة السياسية، حتى تلك التي خسرت الانتخابات، تشعر بالطمأنينة على مستقبل البلاد، وتعبر عن رضاها عن نتائج تلك الانتخابات، يدفعها لذلك الإحساس بإمكانيات التغيير المفتوحة بعد أن تأكد عبورالبلاد من حالة الدكتاتورية وحكم الحزب الواحد وتأمين الحريات الأساسية، حرية التنظيم والتعبير، بمختلف وسائله، بما في ذلك حرية التظاهر والاعتصام السلمي والإضراب لانتزاع الحقوق الفئوية والاجتماعية والسياسية، وأخيراً تعزز ذلك برفع حالة الطورائ مع الذكرى الأولى للثورة. ü في السودان الأمر يختلف، فلا يزال الحزب الحاكم، وبرغم هامش الحرية الضيق الذي «منحه»لخصومه السياسيين وإلى حد ما لحرية التعبير، فإن القرار الوطني لايزال حكراً على ذات العصبة المتنفذة التي وصلت للحكم واستولت على السلطة منذ 30 يونيو 1989م، ما يجعل أي مقارنة سياسية من جانب المعارضة للتصدي لقضايا الوطن الكبرى والتحديات العظام التي تهدد ما تبقى من الكيان الوطني مجرد نجوى بين أناس يخشون على مصير بلادهم ولا يملكون ما يفعلونه لخلاصه، ولسان حالهم يقول «العين بصيرة والإيد قصيرة»!!