القولُ بغير علمٍ آفة من آفاتِ المجتمع الضَّارةِ والمفضيةِ إلى تلوُّثِ السلوك، والرحيل بالأمم من مضارب الاستقامة إلى مفازات الضلال والتِّيه، وإن العمل على تجنُّب قول العواهن، وعشوائية الفتوى في الأمور كافةً أمرٌ يجب الدعوة إليه، والعمل على اتباعه سعياً وراء تأصيل أقوالنا وأفعالنا. من قال لك لا أعلم ولا أدري حول مسألة بعينها فقد أفتاك لأنه دَلَّك على طريق آخر تسلكه في سبيل إدراك الصواب وإصابة هدف الحقيقة التي لاريب فيها ولا غموض. إذا رعى الناس الأُلفة بين القول والعمل لحصدوا خيراً من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولتفادوا كثيراً من عقبات الطريق. إن شعاع آيات الذكر الحكيم ليدلَّنا على مستقيم المسار، ويضيء لنا العتمات والشِّعاب وذلك إذا اتبعناه وسرنا على هديه فهنالك من الناس من يتجرأ ويقدم على إصدار أحكام تسابق تفكيره، وتنافس تأنِّيهِ في تناول القضايا بل هنالك من تعدَّت ألسنتهم على معالم الدين فأصدروا الأقوال حكماً يجافي الأصول، والله سبحانه وتعالى قد قرن مثل هذا القول في التشريع الإلهي بالشرك لخطورة مؤداه، وضرر مرساه «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون» الأعراف (33). إذا اتخذنا هذا القرآن طريقاً، واصطحبنا سُنَّةَ حبيبِنا عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم دليلاً فبذلك نكون قد ضربنا بيننا وبين الباطل بسورٍ ليس له باب، والأخذ بهذين المرجعين يصاحبنا إلى قُدرة الغوص في أعماق بحار العلم حيث تقيم عناصر الحق المبين. لقد وقع بصري على مقالة في إحدى الصحف اليومية تحت عنوان «زمان مثل هذا» فأزعجني قول الكاتب: وأيُّ إنسان مهما ظنه الناس سيِّئاً فإن فيه بذرة الخير التي أودعها فيه الله سبحانه وتعالى «وإنه لحب الخير لشديد» وهي البذرة التي تتصارع مع دوافع الشر لِتكوِّن ما يُعرف بالضمير- انتهى قول الكاتب، فهذا الكاتب، إن كنت قد أصبتُ مقصده، يعني بهذه العبارة التي تقع بين القوسين أن الخير هنا هو مايقف مُضادَّاً للشرِّ، ولولا وضعه العبارة بين القوسين لما دعتني الحاجةُ إلى الإشارة لقوله وإرجاعه لمقصد قول الحق تعالى في سورة «العاديات» «إن الإنسان لربه لكنود(6) وإنه على ذلك لشهيد(7) وإنه لحب الخير لشديد(8)» وحتى لايأخذ بعض القُرَّاء قول الكاتب على محمل المدح فأقول لهم وله: إن القول في العاديات جاء في إطار الذم، وقد قُصد بالخير هنا المال على وجه التحديد، فوقعَ كنودُ الإنسان وحُبُّه للمال وكُفْرُه للنعمة داخل دائرة الحرص والبخل والإمساك، وهذا ما يصنع البون بين مقصد الكاتب ومقصد الآية الكريمة، والله أعلم. ومن الأمثلة الدَّالة على ضرورة الحرص على الغوْصِ في مكامن علوم اللغة قول الحق تعالى «... وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها..» الحديد (27) فظاهر القول لغير المتعمقين قد يوقعهم في مفهوم يجافي الحقيقة، بيد أن من عرف في اللغة ما يُسمَّى بالاستثناء المنقطع سيصنع لنفسه قارب نجاةٍ من أمواج الخلط والارتباك، فالحرف «إلاَّ» السابق لكلمة «ابتغاء» يدلُّ على الاستثناء المنقطع الذي يُرجع معنى «إلاَّ» إلى معنى «لكن» ليكون المرمى الإجمالي للآية هو: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم «لكن» ابتداعهم لها من عند أنفسهم كان القصد منه ابتغاءَ رضوانٍ، وطلبَ قبولِ أعمالِهم، غير أنهم لم يرعوا تلك الرهبانية على الوجه الأكمل فانقلبت وسيلةَ ضلالٍ أوقعتهم في حبائل الشيطان. كثيرة هي تلك المواقع اللغوية ذات العمق معنًى ومبنى في إطار نوابغ الكلم وشوارده، وكثيرة هي تلك المخارج المفتوحة على مصاريعها لكل من أراد أن يتعلم أو أراد متعة اصطحاب جمال الأداء، وكرْفِ عبق العبارة الشائقة، والحُبْلى بالمعاني السامية الرامية إلى مفاتح الفهم الصحيح للذكر الحكيم في السُّنةِ المشَرَّفة، وقول أهل الدهناء أصحاب الرايات النَّاضحة بالكلمة المنظومة والمنثورة.