مرَّ على الوسط الفنِّي بالسودان فنَّانون كسروا السَّائد واختفوا، كلٌ في مجاله، وكسرُ السَّائد يُخِلُّ بهدوء الكائن. ولهذا كان رفض الوسط الفنِّي حينها لهم بقدر الصدمة التي أحدثوها، ثم سرعان ما يعترف الوسط بالجديد الذي أتوا به بعد أن تزول الصدمة، وبمرور الوقت يصبح ما أتى به أولئك الفنانون سائداً، إلى أن يأتي فنانون آخرون يكسرون هذا السائد فيخلُّون بهدوء الكائن، وهكذا تدور الدورة. هم كثر.. وإذا تتبعنا تاريخ وتراث الفن في السودان في شتى ضروبه سنجد نماذج كثيرة، ولكن ما علينا إلاَّ أن نضرب مثلاً بضرب واحد من ضروب الفن، وليكن المسرح. عندما أتى الفاتح مطيع، ذلك الشاب المهووس بالمسرح، بتجاربه الجريئة التي لم تجد لها تصنيفاً حينها لغرابتها، انقسم الوسط الفنِّي بين مؤيد ومعارض وانقسم الفاتح مطيع نفسه على نفسه وظل مقسَّماً بين جاذبية المسرح وجاذبية المتصوفة. والآن أرى الكثير من لمحات الفاتح مطيع وأرى الكثير من تجاربه وآرائه على أرض الواقع بينما اختفى هو. فنان آخر.. محمد عبد المجيد، أو عمر براق كما عرفه الوسط الفني، ذلك الفنان السوداني الذي بدأ أولى تجاربه مع الفنان يوسف شاهين بمصر، وكان يوسف شاهين يراهن عليه، ولكنه وبدون أية مقدمات، وفجأة، ظهر على خشبة المسرح القومي بأم درمان ليُقدِّم تجربته التي قلبت المسرح السوداني رأساً على عقب، فقد قدَّم مسرحيته الشهيرة (نحن نفعل هذا، أتعرفون لماذا؟) وكانت فتحاً جديداً للمسرح السوداني ، ثم اختفى. والآن أرى الكثير من الفنانين الشباب يحملون ملامح عمر براق. هذه التجارب لا تنتهي باختفاء الذين قدَّموها كما يتراءى لنا، ولكنها تتراكم وتؤسس لتراث فنِّي يضيف إليه اللاحقون، وهكذا تتواصل الأجيال. إن تجارب الفرق المسرحية، وتجربة قصر الشباب والأطفال وتجارب أخرى كثيرة، لا تنفصل عن الذي بشَّر به الفاتح مطيع وعمر براق وغيرهم، ولهذا لم يكن غريباً أن يأتي جيل ويمشي بالتجربة بعيداً. إن تجربة الفنان أحمد رضا دهيب لا تنفصل عن تجارب الفاتح مطيع وعمر براق شكلاً، ولا تنفصل عن تجارب الفاضل سعيد وجيله ممارسة. فتجربة (مسرح البيت) نجدها في بدايات الفاضل سعيد، بل قد نجدها في كل تجارب فناني الأقاليم، فهذه حتمية تاريخية. فكل فنان حقيقي بدأ حياته المسرحية بالتمثيل لأهل بيته وأبناء الحي، ولكن الجديد في تجربة أحمد رضا دهيب مع (مسرح البيت) هو القصد الدرامي.. فأحمد رضا هيب أنشأ (مسرح البيت) عن قصد درامي بمعنى وجود خشبة مسرح داخل بيت بكل مواصفات المسرح يقصدها جمهور من أجل الفرجة. بينما التجارب السابقة كانت تجارب فنانين يريدون إظهار مواهبهم لأقرانهم في الحي أو لأهل بيتهم. إن تجارب مسرح المئة كرسي والخمسين كرسي كثيرة في الوطن العربي، ولكنها تجارب تمت في حضن الدولة، بينما (مسرح البيت) الذي أسسه الفنان أحمد رضا دهيب باقتطاع جزء من بيته في الدروشاب هي تجربة تصب في خانة الجهد الشعبي، بل والجهد الفردي إن صحَّت التسمية. تم افتتاح (مسرح البيت) رسمياً في السادس والعشرين من مارس2011م بواسطة معالي الوزير السموأل خلف الله وزير الثقافة واتحاد المهن الدرامية من ضمن احتفالات الدراميين باليوم العالمي للمسرح والذي يتم في السابع والعشرين من كل عام. ولنا عودة للحديث عن (مسرح البيت) بإذن الله بإسهاب.