الحديث عن الحالة المحزنة، والوضع المتردي لمشروع الجزيرة، ظل الشغل الشاغل لأجهزة الإعلام، وقضية الساعة لقطاعات عريضة من المنهمكين في الشأن العام، والمهتمين والمختصين في المجال الاقتصادي والزراعي، فضلاً عن المرتبطين بالمشروع من مزارعين وإداريين سابقين ومواطنين بولاية الجزيرة.ولقد تواترت وتصاعدت في الآونة الأخيرة المقالات الساخنة في الصحف السيارة عن ذات الموضوع، وخاصة عقب إنفصال الجنوب وفقد عائد البترول السخي، وأنحى الكثيرون باللائمة على الحكومة لإهمالها الزراعة وعدم توجيه موارد البترول الكبيرة نحو النهضة الزراعية ودعم وتأهيل المشاريع القومية الكبرى وفي مقدمتها مشروع الجزيرة.ولقد دأب كتاب مرموقين مثل الأستاذ أحمد المصطفى إبراهيم، ود. البونى، وأحمد شريف عثمان على التطرق بصفة متواترة لما آل إليه المشروع العملاق، وكيف كان غيابه في هذا الوقت الحرج العصيب وكأنه البدر الذي يُفتقد في الليلة الظلماء. ولقد إطّلعت مؤخراً على مقالين كتبهما كل من السيد إبراهيم رضوان الزراعي والسياسي والكاتب المعروف، والأستاذ صديق البادى الباحث والمؤلف النشط، وقد تضمن المقالان مقترحات عملية وذات أهمية، لا تقف عند محاولة إنقاذ مشروع الجزيرة، وطرح وسائل وآليات إعادة تأهليه، ولكنهما- وهذا هو الجديد فيهما-يدعوان للتحقيق فيما حدث، وتقصي الحقائق حول الأسباب والعوامل التي أفضت لهذه النهاية المحزنة لأكبر مشروع زراعي في العالم، مع تحديد للمسؤولية وكشف عن الأخطاء أو الجرائم التي أرتكبت في حق العمود الفقاري للاقتصاد السوداني زهاء نصف قرن من الزمان، وبالإضافة إلى الإهتمام العام بمشروع الجزيرة فإن لكاتب هذه السطور إرتباط خاص وعميق بالمشروع، سواء إنطلاقاً من ماضيه التليد أيام عصره الذهبي أو تاسيساً على الآمال العراض في أن تنجح الجهود المبذولة الأن من قبل الدولة، ليعود سيرته الأولى، ويملأ الفراغ المخيف الذي خلفه ذهاب عائد البترول. لقد نشأ جيلنا في كنف مشروع الجزيرة، وتفيأنا ظلاله الوارفة، ونعمنا بخيراته وبركاته منذ نعومة أظافرنا نحن مواطني الجزيرة وأبناء المزارعين، وشهدنا عصره الذهبي في خمسينات وستينات بل ومطلع سبعينات القرن الماضي عندما كان المشروع قبلة الأنظار ومفخرة للسودان بين الأمم الناهضة، ولازلنا نذكر كيف كانت مواكب الرؤساء والملوك وكبار الزوار الأجانب تنطلق نحو مشروع الجزيرة، إذ كان دائماً من أولويات البرامج الرسمية لضيوف البلاد، ولقد عمرت مخيلتنا بمناظر حقول القطن الخضراء الزاهية، وقنوات الري والترع المترعة بالمياه الدافقة، وبسيارات الموريس البيضاء وهي تجوب التفاتيش وتتجول بين الحواشات، وأزيز ماكينات المحالج في الحصاحيصا ومرنجان في موسم الحليج، وهي تعمل ليل نهار ولأشهر عديدة وقد إحتشدت الساحات بجوالات القطن وبالات الحليج، وبالألوف من العمال الوافدين من غرب السودان وشرقه، وللحق فقد كان موسم الحليج في الحصاحيصا «موطني» موسماً لحراك إقتصادي وإجتماعي هائل، ومورداً للرزق الوفير لآلآف الأسر، وكانت الحصاحيصا مقصداً للتجار المتجولين وأصحاب الحرف، كما كان الموسم- كما كان يسمى- مناسبة للنشاط الرياضي والثقافي والفني، ليس في الحصاحيصا ومارنجان والقرى المجاورة فحسب، ولكن لكل مدن وبلدات وقرى الجزيرة. ويعود الفضل للمشروع العريق في دعم الخدمات الاجتماعية بالمنطقة المروية، وتأهيل المدارس الأهلية، ومساعدة الأندية الرياضية، وفي كفالة الطلاب الفقراء، وتوفير عمل لهم في العطلات الصيفية التي تزامن موسم الحليج.ولي شخصياً مع المئات من الطلاب بالمرحلة الثانوية والجامعية آنذاك تجربة فريدة في العمل في المحالج كعمال وكتبه، وأذكر أن أول راتب أقبضه في حياتي كان عام 1964م، وكنت طالباً بحنتوب الثانوية، وكان مبلغاً خرافياً.. اثني عشر جنيهاً كاملة عداً ونقداً، وهو وقتها كان يمثل ثروة شهرية لا بأس بها، تكفي لشراء الملابس المدرسية، وأغراض أخرى عديدة. بعد هذه السياحة (النوستالجية )، المدفوعة بالحنين إلى الماضي، أعود لما كتبه السيد إبراهيم رضوان، والأستاذ صديق البادى، ولتوضيح صلته بالبرلمان. العم إبراهيم رضوان إنطلق من خطاب الأخ رئيس الجمهورية في الشبارقة الأسبوع الماضي، والذي وعد فيه أهل المنطقة والجزيرة بالعمل على إعادة تأهيل مشروع الجزيرة، وبعد أن عدد العم إبراهيم مآثر المشروع وأيامه الخوالي، وإسهاماته الضخمة في دفع عجلة الاقتصاد الوطني، طالب السيد الرئيس بالتوجيه بإجراء تحقيق في ما حدث للمشروع، وملاحقة المسؤولين عن ما آل إليه من تدمير للبنيات الأساسية، وإهمال فظيع للقنوات والحقول والمباني والآليات، وبيع غير مبرر للمنازل والمرافق، ونزع لخطوط السكة حديد. أما الأستاذ صديق البادى فقد ناشد أعضاء الهيئة البرلمانية لنواب الجزيرة بالمجلس الوطني لطرح مبادرات برلمانية في ذات الإتجاه، ولتحمل مسؤولياتهم السياسية والأخلاقية إزاء مناطقهم وناخبيهم. وللتوفيق بين المقترحين نقول بأنه يمكن للمجلس الوطني أن يتبنى عبر إقتراح من نواب الجزيرة مبادرة تتمثل في تكوين لجنة مختارة أو طارئة للقيام بدراسة شاملة للظروف والملابسات التي أدت إلى تدمير مشروع الجزيرة، مع تحديد للمسؤولية، واقتراح للحلول والبدائل، وأن يكون جوهر عمل اللجنة تقصي الحقائق عبر الاستماع إلى المختصين والخبراء وشهود الحدث، بالإضافة إلى لقاء إدارة المشروع الحالية، والمتاح من المدراء وكبار المسؤولين السابقين، واتحادات المزارعين، والأكاديمين المتخصصين في مجالات الري والزراعة والأبحاث، ورؤساء الإدارت المعنية في وزارتي الزراعة والري، والمالية، والبنوك ذات الصلة، ووزراء الزراعة الحالي والسابقين، وبيوت الخبرة ومراكز الدراسات.هذا الاقتراح يحقق عدة أهداف، أولها الوصول إلى خلاصات علمية موثقة وموضوعية لتحديد موضع الداء ومكمن الخلل، هل هو بسبب السياسات الخاطئة، أم الفشل الإداري، أم التدخلات السياسية، أم الظروف الاقتصادية، وهل للمزارع السوداني دور في هذه النتيجة، وهل كان انهيار المشروع نتيجة حتمية لهرمه وإرهاق التربة، وهل العوامل كلها داخلية أم أن للتحولات العالمية، وظروف الحصار، وشح النقد الأجنبي إسهام في ماحدث، وهل هناك جدوى اقتصادية من إحياء المشروع، وهل ما زال المحصول الرئيسي وهو القطن الخيار الأفضل ؟ والفائدة الثانية من إجراء هذه الدراسة ربط البرلمان بالقضايا القومية الملحة، وإحياء الدور التاريخي للمؤسسة التشريعية والسنة الحميدة التي دأبت على اتباعها البرلمانات السابقة في إعداد دراسات عميقة وشاملة وموضوعية تثري الأدب البرلماني، وتنير الطريق أمام الأجيال القادمة من الباحثين والمهتمين، وأذكر في هذا الصدد نماذج رفيعة من التقارير القيّمة التي عكفت عليها لجان مختارة في الماضي قضت الشهور الطوال في البحث والتنقيب في خفايا وجوانب مسائل هامة وقضايا جوهرية، وكانت ثمرة ذلك الجهد تحفاً رائعة من البيانات والتحليلات والتوصيات ضمنت في تقارير ودراسات ذات وزن برلماني وعلمي كبير، ومن بين هذه الدراسات دراسة لجنة مختارة من مجلس الشعب الثاني حول الحكم المحلي، وأخرى في فترة مجلس الشعب الرابع حول آثار الوجود الأجنبي في السودان، وثالثة إبان فترة الجمعية التأسيسية الثالثة (1987م) حول أزمة المواصلات في العاصمة القومية، ورابعة حول المؤسسات العامة وسلعة الصمغ العربي .....الخ.ومما يدعم ما ذهبنا إليه توفر الإرادة السياسية القوية للدولة في مجال النهضة الزراعية، والإهتمام والرعاية الشخصية الذي تلقاه من السيد النائب الأول، بالإضافة للسعي الحثيث لوزير الزراعة الحالي في الحصول على القروض والدعم الأجنبي للنهوض بالزراعة وإعادة تأهيل المشاريع الكبرى. والله من وراء القصد،،،