«ما دفنوه ولكن غرسوه في الأرض التي أحبَّها وأحبَّته وسيظل وردي باقياً في وجداننا إلى الأبد، له الرحمة». هذه هي الرسالة التي بعثت بها أميرة فتح الرحمن إلى ابن عمتها الدكتور الفاضل محمد عثمان، عقب تشييع جنازة الراحل وردي.. وأميرة من عامة الناس الذين تربطهم بوردي وشائج الفن، وقد قمت بنفسي بتبليغ هذه الرسالة إلى كل من قابلته في خيمة العزاء، ولصدقها انتشرت بين جميع الحضور، إلى أن تسللت بين كلمات التأبين، وكنت من المحظوظين الذين كانوا يجلسون بالقرب من الدكتور الفاضل محمد عثمان عندما قرأ على الحضور الرسالة، التي وصلت إليه من أميرة فتح الرحمن ابنة خاله وشقيقة زوجته آمال، والدكتور الفاضل محمد عثمان هو من طاقم الأطباء الذين كانوا يشرفون على علاج الراحل وردي بمستشفى فضيل بالخرطوم، ومن الذين تربطهم به الصداقة والمحبة الصادقة، ولهذا كانت الساعات التي سبقت وفاة الراحل وردي من أقسى الساعات عليه، فكانت الرسالة التي وصلت إليه من ابنة خاله بلسماً خفف عليه المعاناة. لا شك أن هناك الآلاف من أمثال أميرة بل الملايين الذين أحسوا بذلك الإحساس منهم من صاغه في كلمات ومنهم من كتمه، ولكن لماذا كان هذا الاجماع العام على وردي؟ هذا سؤال كبير ينتظر الباحثين للإجابة عنه، في رسائل علمية، تقع مسؤولية انجازها على طالبي رسالات الماجستير والدكتوراة في جامعاتنا الكثيرة، قبل أن يسبقنا إلى انجازها طلاب جامعات العالم من حولنا، الذين أحبوا وردي وعرفوا قدره، فلم يكن غريباً أن يكون الفنان الأول لدى الكثير من رؤساء الدول الافريقية والعربية. هذه المكانة الكبيرة لم يصل إليها وردي بين ليلة وضحاها، بل بذل من أجلها الكثير، وقد ساعدته على ذلك الحتميات التاريخية والحتميات الفنية، التي جعلت منه ذلك العملاق، تلك الحتميات التي لابد من تفكيكها وتحليلها حتى نستطيع التعامل مع الكائنات الحية التي نشرها بيننا وردي، فأغنيات وردي ليست محض أغنيات، وإنما هي كائنات تتنفس الحياة وتمشي بيننا في الأسواق، فوردي الكائن ذهب إلى من هو أرحم منا عليه، وهذه هي سنة الحياة.. ولكن وردي الفنان سيبقى في أغنياته، ووردي الإنسان سيبقى في مآثره التي يعلمها خاصة الخاصة، والله سبحانه وتعالى، فعلينا التعامل مع وردي الفنان. جاء وردي الإنسان النيلي من منطقة هي من مناطق الوعي العام المستنير، نشأ في حضن حضارة تمتد إلى سبعة آلاف سنة، وفضل الوعي النيلي على حضارة هذه البلاد لا يمكن إنكاره. نشأ وردي في منطقة كانت هي الأقرب إلى مصر، وإلى الحضارة المتوسطية، فكانت الفنون القادمة من مصر هي الأقرب والأكثر أثراً عليه، مثله مثل كل سكان تلك المناطق، فما كان منه إلا أن يسمي ابنته صباح، وأن يسمي أبناءه عبد الوهاب وحافظ «عبد الحليم حافظ»، وهو لم ينقل الأسماء فقط ولكنه نقل القوالب الموسيقية، والتعبير الموسيقي، وهذا يصب في جانب الشكل، وعندما اتى إلى العاصمة وانضم إلى اليسار العريض، اختلط الشكل بالمضمون، فكانت أغنيات وردي، والفن هو شكل، ولكن العمل الفني هو شكل ومضمون، وعظمة وردي في اخضاع كل ذلك إلى السلم الخماسي. ولانتماء وردي لموروثات هذه الأمة لم ينس أن يسمي ابنه حسن على جده حسن، وعندما دخل إلى العالم الحديث كان مظفر وكانت جوليا.. فوردي ربط بين ربوع السودان، والحقيبة، والوسط الحديث في أغنياته العاطفية، وبين خليل فرح والدوش ومحجوب شريف وعلي عبد القيوم في أغنياته الوطنية، وجميع بين كل أفراد الشعب السوداني في كل انتاجه الفني، فكانت خيمة العزاء خارطة للسودان بكل سحناته واتجاهاته السياسية.