تشتد الحملات هذه الأيام، المتشنج منها والمعتدل، من فئات عديدة من الناس.. والكل يدعو ويبشر ويبرر ويعلل لما يرى من وجهة نظره (الخاصة) (بالدستور) الذي يحلم به لحكم البلاد في المستقبل، وبالطبع فإن لكل فئة بالتساوي والحرية والحق فيما ترى وتدعو إليه ولكن يتعين على كل فئة أن تأخذ في حسبانها أن (الدستور) الذي تدعو إليه قد لا يكون توافقياً ومرضياً للفئات الأخرى دونها. فالدستور المرتقب يتعين أن يجد القبول والقناعة من جميع فئات الشعب قاطبة، وأن يحقق السلام والأمن والاستقرار والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية للكل. إن (الدستور) القادم لا ينبغي أن يكون (دستور) قانونيين فحسب، بل (دستور) كل الناس بأن يستفتوا وتطرح مضامينه في البداية على فئات المجتمع المختلفة (كأطفال الشوارع- الشماسة) و(المعاقين) و(أصحاب الحاجات الخاصة) و(الحرفيين) و(الموظفين) و(أساتذة الجامعات) و(المعلمين) و(النقابات) وكل تشكيلات المجتمع وكل (النحل) و(الملل) و(الطوائف) و(السلفيين) و(الحديثين) وكل صاحب (جبهة) و(صديري) و(قفطان) و(منصور خالد) كما جاء في (خطبة الوداع) للراحل المقيم الأديب الأريب (عمر الحاج موسى) في عهد (مايو)- عليه رحمه الله- باختصار تستفني فيه كل (ألوان الطيف) في المجتمع (نساء) و(رجالاً) (شيباً) ثم بعد ذلك يجيء دور (القانونيين) والهيئة (التشريعية)- الجمعية التأسيسية- لصياغة تلك الرؤى والتطلعات والأفكار وكتابتها وإجازتها في وثيقة (دستور) تجد في النهاية الاحترام والقداسة والشجاعة والبسالة من كل فئات الشعب للتصدي والدفاع عنها ضد أي مغامر يحاول الاعتداء عليها في المستقبل. وعندما يقر (الدستور) لا ينبغي أن تظل نصوصه هامدة وجامدة، وذلك يتعين أن تكون فعالة ومتحركة وتستوجب المحاسبة على من يخرقها أو يقصر في تحريكها، وكم رأينا من الدساتير العديدة التي عشناها كم حوت من النصوص الهامدة والجامدة بدءاً (بقانون الحكم الذاتي) أو (الدستور) الذي وضعته لجنة القاضي (استانلي بيكر) في عام 1953م والمؤقت لعام 1956م و(المؤقت- المعدل 1964م) و(دستور 1973م) في عهد (مايو) و(دستور 1998م و2005م) في عهد (الإنقاذ). فالمحاسبة في المستقبل للجهاز التنفيذي ومؤسسات الدولة الأخرى يتعين أن تكون على أساس نصوص الدستور- بجانب أية قوانين محاسبية أخرى- وتفعيل نصوصه.. ففي كثير من (الدساتير) المذكورة نجد قضايا كثيرة ظلت كنصوص جامدة لم تفعل، فمثلاً كقضية (محو الأمية) و(الجهالة). إن (الدستور) الذي نريده يتعين أن يركز- فيما يركز- في مضامينه الأساسية وعلى القوانين واللوائح التي تصدر لاحقاً لتفعيل نصوصه على بعض القضايا المهمة في نظري والتي أجملها في الآتي: 1. أولاً: حرية الإنسان وكرامته انطلاقاً من قوله سبحانه وتعالى (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر...) الإسراء (70) وتراث السلف الصالح (متى يا عمرو استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً- أضرب ابن الأكرمين)- في الرواية المعروفة ومقولة الفيلسوف الفرنسي وأخاله (روسو) القائل (لقد ولد الإنسان حراً ولكنه مكبل بالأصفاد في كل مكان). MAN IS BORN FREE BUT EVER WHERE HE IS IN CHAINS وكذلك المقولة الأخرى التي تنص (أنا اختلف معك فيما تقول ولكنني سأدفع عن حقك لتقول ما ترى).. ونصها:I Disagree of what you say but I will defend your Right to say it 2. الأمر الثاني الذي ينبغي أن يركز عليه الدستور هو (طهارة الدولة) والشفافية في حفظ وصيانة المال العام بابتداع النصوص التي تؤمن ذلك، وفي اختيار العاملين القيمين عليه من (الأقوياء الأمناء) كمقولة ابنة سيدنا (شعيب)- عليه رضوان الله- ( يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) صدق الله العظيم. 3. الأمر الثالث هو إعادة النظر في التنظيم الحالي لبعض (هياكل) الدولة وصلاحياتها يخيل إليّ أن كل واحد منا قد لمس خلال مسيرتنا السياسية الطويلة أن هناك بعض الأجهزة التي يتعين النظر في وضعها الحالي أو سن المزيد من التشريعات التي تضبط عملها، فمثلاً وضعية (النيابة العامة)، فهذا المرفق في تقديري ينبغي أن يكون بعيداً في أدائه عن الجهاز التنفيذي (ديوان النائب العام)، فهو أشبه أو قريب من (السلطة القضائية)، ودون تفصيل فكلنا يعلم ما تم فيه من أمور سالبة أطاحت (برأس) الجهاز نفسه. هذا وتجدر الإشارة، كما يعلم الجميع، إلى أن بشمال الوادي الآن (مصر)، حملة مماثلة لدستورهم القادم تتزامن مع حملتنا هذه، وهناك دعوة مماثلة كدعوتي هذه بإعادة النظر في وضعية (النيابة العامة) بضمها (للسلطة القضائية). 4. الأمر الرابع هو إعادة النظر في وضعية (هيئة المظالم والحسبة العامة) لتكون جهازاً (دستورياً) تابعاً لرأس الدولة في صلاحياته (السيادية) مثلها مثل (ديوان المراجعة العامة) وكالدول التي سبقتنا في هذا المضمار وأذكر منها (السويد)، فوضع هذه الهيئة حالياً لا يمكنها من حرية الحركة والانطلاق لأداء مهامها بكفاءة وفعالية أكبر.. على أن يضم إلى هذه (الهيئة) (إدارة الثراء الحرام والمشبوه بديوان النائب العام) ولمزيد من المعلومات عن هذه (الهيئة) يمكن الرجوع إلى كتاب (الأحكام السلطانية) لمؤلفه (أبو الحسن الماوردي). وبعد أن يتم وضع الدستور وإجازته يبقى الأمر المهم وهو كيفية صيانته واحترامه وتفعيل نصوصه، فكم وكم من (دساتير) جميلة لم نحافظ عليها، فسطا عليها (العسكر) في غفلة ومزقوها إرباً إرباً رغم أن الجميع من بالساحة الآن قد تعاهدوا ووقعوا (بالدماء) من قبل على (العريضة) المشهورة للمحافظة عليه.. ولكن هيهات هيهات. هذه مساهمة متواضعة مني آمل أن يتدارسها الناس، إذ ربما يجدوا فيها شيئاً قد يكون مفيداً للدستور القادم الذي يرضي الجميع ويقنع (المؤذن) في سماحة بحرية ضارب (الناقوس) في(الكنيسة) في عبادته وإيمانه فيما يعتقد ويقنع، كذلك ضارب(الناقوس) بحرية رصيفه في اعتقاده، وسوف نكون بذلك قد أزلنا الحيرة وأجبنا على السؤال الذي طرحه حكيم (المعرة- أبو العلاء المعري) قبل قرون من الزمان حين أنشد متسائلاً: هذا (بناقوس) يدق وذا (بمئذنه يصيح) كل يعظم (دينه) يا ليت شعري ما الصحيح؟