أم درمان عبق التاريخ السوداني وصوته الساحر، أم درمان هذا المزيج البشري الرائع، الذي مهر المجتمع السوداني وأعطاه هويته المتلاحمة، التي جمعت الدم السوداني من شماله وجنوبه غربه وشرقه.. من جبال النوبة، والهدندوة، والبقارة، والبجه، والمحس، والشايقية، والجعلية عرب وأعراب، وأفارقة، حيث يلتقي الجميع على ضفاف النيل الخالد، وتصدح إذاعة أم درمان بأغاني الحقيبة وروائع عثمان حسين، وتردد جنبات الموردة أغاني حمد الريح، وتنتشي فاتنات الملازمين على روائع كرومة وعبد العزيز داؤود، وتتصاعد روائح الغبار من رقصات العرضة السودانية الرائعة، في رجولة حاملي السيوف، الذين يتوعودن العدو، ويشهدون السماء على هذه الوعود. هناك أم درمان قيثارة النيل، التي رددت أغاني وردي الخالدة التي صاغها الأديب العبقري الحردلو، وأطلقها وردي معزوفة خالدة في الوجدان السوداني، «وطني ياحبوب بابو جلابية وتوب». أم درمان مدينة الأمراء والقادة، مدينة الشعراء والأدباء، مدينة المدن السودانية، التي تحتضن النيلين وتعطر فيهما الماء، بوجدانها الدافيء، وصوت إذاعتها الخالد «هنا أم درمان». هذه المدينة الرائعة مدينة يمنية الاسم، خالصة النسب في انتمائها لليمن نسباً واسماً، وإنما تظل موقعاً، خاصة لنيلي السودان العظيم. وأنا هنا لا أهرف بما لا أعرف، ولا أرسل القول جزافاً إنما اعتمد وانقل حرفياً ما أورده المؤرخ السوداني. الصديق أحمد حضرة.. المتوفي في 1918م في كتابه- المكون من جزئين- بعنوان: «العرب التاريخ والجذور». وفي الجزء الأول منه بعنوان «أنساب أهل السودان»، ذات الجذور العربية وهو مؤرخ سوداني قدم له البروفيسور الموسوعة د. عون الشريف قاسم، ووصف كتابه الموسوعة وكاتبه بسعة الإطلاع والتضلع في التراث العربي عامة والسوداني خاصة. وهذه التقدمة علها توضع مكانة هذا المؤرخ السوداني، الذي يصفه د. عون الشريف قاسم بأن كتابه هو بعد ثالث ثلاثة من أهم مؤرخي السودان. ويسجل المؤرخ السوداني الصديق أحمد حضرة في الفصل الثاني «ص 190» بعنوان: السودان من مملكة أم درمان (545) إلى هزيمة المهدية. مملكة أم درمان سابقاً كانت في زمن النصرانية وأهلها نوبة، الجنس على قبيلتين قال المقريزي- نقلاً عن كتاب عبد الله بن أحمد بن سليم الاسواني- إن أم درمان اسم إمرأة المغرة، وتدعي «أم درمن» وهي من أهالي اليمن، وكان جدهم مقري من اليمن، وجميع الأنساب تنسبهم إلى ولد حام بن نوح عليه السلام، وكانت سابقاً لهم قرية تعرف بنافية على مرحلة من اسوان، ومدينة ملكهم يقال لها نجراش، وارتحل أهلها إلى تلك الجهة التي هي أم درمان، وكانت سابقاً هي أرض الدمادم نوع من السودان، ودخلت تحت حوزة الملك المسمى «أدون» الذي هو مالك لتلك الجهة، وعاصمة المملكة في الجبل المسمى باسمه «أدون» الذي هو بحري دار الكبابيش المسماة الصافية، وشرق العين المسماة عين أبو تنك، وآثار بنيان مملكته موجودة للآن الذي هو عام 1333هجرية، وكان حضورها في هذا المكان المسمى سابقاً بأرض الدمادم في سنة 545 ميلادية من قبل وهذه هي قصة تسمية أم درمان- كما أوردها مؤرخ سوداني ضليع- وهنا تجدر الإشارة الى أن مؤرخي السودان بحاجة إلى التمعن في تاريخ مملكة علوة العليا والسفلى، وتاريخ علوة، ونسب المغربيين، ووجودهم التاريخي عل ذلك يوثق أواصر التلاحم والتمازج الأثني والعرقي بين شعوب المنطقة المطلة على «زقاق البحر الأحمر» وفي جانبيه. كما أود أن أشكر الأستاذ عبد الله علي إبراهيم ،الذي أشار في إحدى مقالاته الى أن اسم الخرطوم يعني في اللغة النوبية القديمة «محتوى الماء- أو مجمع الماء»- ولعل خرطوم بحري يمكن قياسها في تحديد الاتجاه القبلي، والوجه البحري الخرطوم- الخرطوم بحري.. فهل اقتربنا من قراءة مكونات العاصمة المثلثة، كما أزجي الشكر للأستاذ جمال الشريف في كتابه الرائع «تاريخ السودان السياسي» والذي من خلاله أجاب على تساؤلي الدائم حول أخبارالخرطوم مقر للإدارة البريطانية. حيث أوضح بأن بريطانيا كانت يمكن أن تفرط في مجمل بقاع السودان ونواحيه، إلا مدينة الخرطوم باعتبارها مجمع الماء الذي يمد شريان الحياة لوجودها الإمبراطوري في مصر. ولنا عودة مع الأستاذ والصديق الرائع الأستاذ مصطفى أبو العزائم حول بلقيس الكنداكة، وبلقيس الأثيوبية، وسوبا، وسبأ إلا أننا هنا نحتفي جميعنا بيمانية أم درمان أولاً، وبما يقرب الرؤية من قراءة التاريخ بصورة مشتركة. سفير اليمن