ü بينما جلستُ لإعداد هذه «الإضاءة» كان المجلس العسكري الأعلى الحاكم في مصر قد دخل في اجتماع موسع مع ممثلي القوى السياسية المصرية، بما فيهم حزب الحرية والعدالة- الجناح السياسي لجماعة الأخوان المسلمين وحزب النور- ممثل الجماعات السلفية- للبحث في الأزمة الناشبة بين القوى السياسية الإسلامية والليبرالية والعلمانية حول تشكيل اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور التي انتخبها مجلس الشعب والشورى في اجتماع مشترك، ورأت القوى الليبرالية والعلمانية وعدد وافر من الخبراء الدستوريين وبعض ممثلي النقابات المهنية أنها تفتقر إلى التوازن المطلوب في لجنة مهمتها وضع دستور دائم يعبر عن كل المصريين وليس القوى المنتصرة في الانتخابات النيابية الأخيرة فقط، وذلك بعد أن تأكد أن الأخوان والسلفيين قد استأثروا بجل مقاعد اللجنة المائة، ما قاد إلى انسحاب نحو(15) من أعضاء اللجنة حتى أمس احتجاجاً على هذا النهج الانفرادي. ü الأخوان المسلمون، المنتصرون في الانتخابات الأخيرة، دخلوا في أكثر من اشتباك على أكثر من جبهة، فبالإضافة إلى الأزمة التي فجروها مع القوى السياسية الأخرى جراء ترتيبات الاستحواذ على غالبية مقاعد اللجنة التأسيسية المائة، فهم يطالبون بإقالة حكومة الجنزوري المعينة من المجلس العسكري الأعلى، وأصدروا بياناً انتقد بشدة إدارة المجلس للمرحلة الانتقالية، مما اضطر المجلس- في واقعة نادرة- أن يصدر بياناً رداً على حزب أو جماعة بعينها يدافع فيه عن أدائه وأسلوب إدارته. وقال المجلس في بيانه: «توهم البعض أن بمقدورهم الضغط على القوات المسلحة ومجلسها الأعلى بغرض إثنائه عن المضي في مهمته الوطنية خلال المرحلة الانتقالية والسعي لتقويض سلطاته الدستورية دون النظر إلى مصالح الجماهير»، لاحظ عبارة «الضغط على القوات المسلحة ومجلسها الأعلى»، فالإشارة واضحة، بتقديم «القوات المسلحة» على «المجلس العسكري الأعلى» بحيث يفهم من يعينهم الأمر- وهم هنا الأخوان وحزبهم- بأن الضغط على المجلس العسكري الأعلى هو تحدٍ للقوات المسلحة قبل أن يكون موجهاً للمجلس العسكري «كمؤسسة» قائمة بذاتها تدير شؤون البلاد السياسية، وبذلك يضع المجلس الأعلى نفسه كهيئة مع الجيش في سلة واحدة. وعبّر المجلس في بيانه أنه «تابع ببالغ الاستياء ما تناولته وسائل الإعلام من بيانات صدرت من (إحدى القوى السياسية) بما يطعن في نزاهة قصد القوات المسلحة ومجلسها الأعلى ويطعن في أداء و وطنية الحكومات التي شكلها»- والإشارة هنا لحكومة الجنزوري التي يدمغها حزب الحرية والعدالة بالفشل وطالب بحلها وهدد أخيراً بسحب الثقة عنها عبر مجلس الشعب إذا لم يستجب المجلس لطلبه. لكن أخطر ما في بيان المجلس العسكري هو ما ختم به، عندما قال: «إننا نطالب الجميع بأن يعوا (دروس التاريخ) لتجنب تكرار (أخطاء ماضٍ) لا نريد له أن يعود». وخير من يفهم هذه العبارة المتعلقة «بدروس التاريخ وأخطاء الماضي» هم الأخوان أنفسهم، فالمجلس الأعلى أراد ان يذكرهم بما حدث منهم وما وقع بينهم وبين قيادة ثورة يوليو ممثلة في عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة عام 1954، عندما انحازوا إلى جمال عبد الناصر وصحبه ضد محمد نجيب الذي كان يطالب بعودة الحياة السياسية والديمقراطية، ظنّاً منهم أنهم بذلك سيتمكنون من السيطرة على الثورة والتخلص من الضباط الأحرار تدريجياً لينفردوا بالساحة، وهو الموقف الذي سجله محمد نجيب بوضوح وتفصيل في مذكراته في الفصل المتعلق بأحداث مارس من ذلك العام. فالتذكير هنا هو بمثابة تحذير مباشر للأخوان من مد يدهم إلى «عش الدبابير» الذي هو هنا القوات المسلحة التي جربوا خطورة «اللعب معها أو بها» ما قاد بعد تلك الأزمة إلى حلها وحظرها وملاحقة عناصرها إلى أن قامت ثورة 25 مايو والتي لعبت فيها القوات المسلحة دوراً «وطنياً» كما وردت الإشارة بحماية الثورة في مواجهة قمع النظام وتكفل «مجلسها الأعلى» بإدارة الفترة الانتقالية. ü بيان جماعة الأخوان المسلمين الذي أصدرته يوم السبت الماضي انتقد المجلس العسكري، وقال إنه «يتمسك بحكومة فاشلة وأسوأ من سابقاتها». وأشار إلى أن «الانتخابات الرئاسية المقبلة يمكن أن تزوّر»، وقد بدأ مجلس الشعب الذي يسيطر عليه الأخوان والسلفيون خطوات لسحب الثقة من الحكومة، رغم أن سلطة تشكيل أي حكومة جديدة هي بيد المجلس العسكري الذي قال إنه سيسلم السلطة للمدنيين وللرئيس المنتخب بحلول شهر يوليو المقبل. ü راقب العديد من المحللين والمتابعين سلوك جماعة الأخوان وحزبهم «الحرية والعدالة»، منذ انتصار الثورة وإزاحة حسني مبارك وأعوانه المباشرين عن السلطة، حيث بدأوا بما يصفه البعض بالتحالف مع المجلس العسكري الأعلى ضد القوى الديمقراطية والليبرالية التي فجرت الثورة وقادتها في المراحل الأولى، ورتبوا في تنسيق ظاهر مع المجلس الأعلى لإجراء «التعديلات الدستورية» والاستفتاء عليها وإصدار «الإعلان الدستوري» حول إدارة المرحلة الانتقالية، ورفضوا كل محاولات الوفاق على مبادئ الدستور الدائم قبل الانتخابات النيابية والرئاسية، بما في ذلك «وثيقة علي السلمي» التي باعدت بينهم وبين المجلس الذي تبنى الدعوة لتلك الوثيقة. ورصد المحللون والمتابعون للشأن المصري تراجعات الأخوان المتعددة عن وعودهم المعلنة، ومنها على سبيل المثال: وعدهم بأنهم لن يرشحوا لانتخابات البرلمان أكثر من 35 في المائة، ولكن عندما حل موعد الانتخابات رشحوا في جميع الدوائر تقريباً ونالوا نحو 46% من مقاعد مجلس الشعب، وإذا ما أضيف إليهم التيارات السياسية الأخرى «حزب النور والجماعات الإسلامية» يصبح مجموع ممثلي «الإسلام السياسي» أكثر من 67 في المائة. كما وعدوا بأنهم لن يسموا مرشحاً عنهم للرئاسة وفصلوا القيادي بالجماعة عبد المنعم أبو الفتوح وعدداً من مؤيديه من الشباب لأنهم خالفوا هذا التوجيه، لكنهم تراجعوا في الوقت الحاضر ورشحت أنباء شبه مؤكدة بأنهم سيرشحون نائب المرشد والمسؤول المالي للجماعة خيرت الشاطر، الأمر الذي لم يستبعده الناطق باسم حزب الحرية والعدالة ومستشارها القانوني د. أحمد أبو بكر في العديد من لقاءاته التلفزيونية. كما وعدت الجماعة في مناسبات متعددة بأنها ستعمد إلى العمل من أجل وضع دستور مدني ديمقراطي متوافق عليه، ولكنها بعد الفوز تراجعت عن وعدها أيضاً بتخصيص 60% من عضوية لجنة الدستور لأعضاء من خارج البرلمان، وبترتيب مع حزب النور الذي كان يطالب بتخصيص 70% من عضوية اللجنة لأعضاء البرلمان- من مجلس الشعب والشورى- وصلت إلى قرارها بتخصيص المقاعد مناصفة بين الفريقين 50% من البرلمان و 50% من خارجه، ولكن حتى الخمسين في المائة الأخرى فهي لم تنس نصيبها فيها وبالتالي تمكنت هي وحزب والنور وجماعات الإسلام السياسي الأخرى من الحصول على نحو 64% من مجموع أعضاء اللجنة المؤسسة للدستور، الأمر الذي دفع ممثلي القوى الأخرى لإعلان انسحابهم من اللجنة، وأضطر المجلس الأعلى للتدخل والدعوة لاجتماع الأمس، الذي لم تعلن نتائجه الفعلية بعد. ü الأزمة التي تواجهها مصر الآن هي أزمة مركبة ومعقدة، وضعت البلاد كلها في حالة ارتباك خطير، ومصدرها الرئيس- كما يبدو لأي مراقب مدقق- هي محاولات الهيمنة والاستئثار من جانب قوى الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الأخوان المسلمين، التي رأت في النصر السريع الذي أحرزته بعد ثورة 25مايو- التي التحقت بها بعد تردد- فرصة مواتية لفرض رؤاها سواء بالنسبة للدستور أو إدارة البلاد في الفترة الانتقالية، مما اضطر القوى الأخرى المدنية والليبرالية وحتى العسكرية ممثلة في المجلس الأعلى للعمل من أجل إبطال محاولات الهيمنة والاستئثار، التي تعني بشكل أو آخر الالتفاف على مكتسبات الثورة والعودة بالبلاد القهقري لما كانت عليه في ظل هيمنة الحزب الوطني على البرلمان والحكومة والرئاسة وحتى المجالس المحلية. نعم، حتى هذه اللحظة لا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في مصر في ظل حالة الارتباك والتنازع هذه، ويظل السؤال: مصر إلى أين، مفتوحاً على كل الاحتمالات والاتجاهات، خصوصاً بعد أن وصل النزاع إلى محاكم القضاء الإداري والدستوري واضطر المجلس العسكري الأعلى للتدخل.