ü في أواخر الأسبوع الماضي تلقيت باقة دعوة أنيقة ومكلفة، تتكون من كارت دعوة ومطبق «بروشور» يتضمن خريطة مكان الحفل وخارطة الجلوس للضيوف وبرنامج الاحتفال وإرشادات هامة حول مواعيد الحضور ومواقف السيارات في الساحة الخضراء بالخرطوم التي يبدأ منها الانطلاق باتجاه مشروع سكر النيل الأبيض مع بطاقة بغلاف بلاستيكي مكتوب عليها «افتتاح سكر النيل الأبيض 5 أبريل 2012» وحمالة رقبة حريرية حمراء لتعليق البطاقة تحمل اسم المشروع وشعاره، كل ذلك في صندوق رقيق يحمل اسم المدعو المطبوع والمثبت على الصندوق من الخارج، وينبئك بأنك مدعو لحفل استثنائي، وهو كذلك بالفعل فحجم المشروع والإنجاز والآمال المعقودة عليه تقول بذلك. ü شخصياً، كنت أقدم رِجلاً وأؤخر أخرى في تلبية تلك الدعوة، لأسباب تخصني بعضها صحي، وبعضها الآخر موضوعي يتصل بكوني أحد أبناء «بحر أبيض» وتَشكَل لديّ عبر السنين رأي سالب في مشروعات السكر التي استهدفت النيل الأبيض على وجه الخصوص، فتجربة «كنانة» و«عسلاية» كانت خصماً على مواطن الولاية، وبرغم نجاح تلك المشروعات من «منظور قومي»، إلا أن آثارها المحلية كانت سالبة. سالبة من حيث عدم إشراك الولاية ومواطنيها وفق مفهوم «قسمة الثروة» في عائدات تلك المشروعات، التي غطت أوسع وأخصب أراضيهم واستهلكت قدراً كبيراً من مياههم دون أن يكون لهم ولولايتهم نصيب في عائدات السكر، حتى لو كان في دعم «رطل السكر» لمواطني الولاية المنتجة، وظلت طوال الوقت ولاية النيل الأبيض في حالة فقر مدقع، وينظر مسؤولوها بتحسر لهذه المفارقة الغريبة بين الثراء الذي تمثله مشروعات السكر والفقر الذي يحيط بالولاية وأهلها، لا لسبب سوى أن هذه المشروعات المنتجة والغنية هي «مشروعات قومية» لا تخص هذه الولاية، التي عليها أن تتدبر أمرها من دون الالتفات لعائدات هذه المشاريع، ذات المشاريع التي تحتل أرضها وتتوسع مع كل عام شمالاً وجنوباً على ضفتي بحر أبيض شرقاً وغرباً، ومنها وأكبرها مشروع النيل الأبيض العملاق المنوي افتتاحه، ومشروع سكر الكريدة غرب النيل، ومشاريع أخرى يجري التخطيط لها غرباً جنوبكوستي وأخرى شرقاً حول الجبلين، لتصبح الولاية في خاتمة المطاف «جمهورية سُكر» أو «موز» سودانية، وهذا بالضبط ما كان يفعله الأمريكان في بلدان أمريكا الجنوبية، حيث يتم الاستيلاء على الأرض وتستنزف المياه وخصوبة الأرض في زراعة الموز أو السكر، دون أدنى اعتبار للبيئة أو للإنسان وموارده الطبيعية وأنماط عيشه التي على مشروعات التنمية العادلة والمجدية أن تستصحبها في التخطيط. ü ولاية النيل الأبيض، ولاية غنية بمواردها الطبيعية وبعادات أهلها وتقاليدهم في الإنتاج، وهم لم يستشاروا أصلاً في ما يجب عمله لتطوير الولاية، ولو فعلت الحكومة ذلك لوجدت كثيراً من الأفكار من أبناء الولاية ومثقفيها الكثر التي تطرح عليها مشروعات أكثر جدوى ونفعاً للولاية وللوطن الكبير، لكن الحكومة غالباً ما تأتي بمشروعات استثمارية «مُعلبة» تمليها عليها احتياجات الخزينة المركزية وفرض الضرائب والجبايات أكثر من ضرورات التنمية العادلة التي يجب أن تستهدف إنسان المنطقة أولاً وقبل كل شيء، وهذا ما يجعل أهل الولاية ينظرون بعيون حذرة ونفوس مغبونة لمثل هذه المشروعات. ü في حالة مشروع سكر النيل الأبيض، وهذه حسنة ميَّزته عن باقي المشروعات، وربما لإدراك متأخر لكل ما قدمنا عن إحساس مواطن بحر أبيض بالغبن، خصص مصممو المشروع جزءاً من الأرض يزرعه أهل المنطقة ويقوم المشروع بتوفير الري فيه، لكن إذا ما قارنا المساحة المخصصة للمشروع مع ما تم تخصيصه للأهالي نجد أن جل الأرض قد تم حجزها لإنتاج السكر ومخرجاته ليصبح ما خصص للأهالي «مساحة هامشية» وقد تساعد في استرضائهم لكن يبقى المشروع- الذي أشرفت على تصميمه شركة كنانة- يخص المستثمرين والحكومة القومية وحدها ولا نصيب للولاية فيه، كالعادة وكما هو الحال في مشروع كنانة كما سلفت الإشارة. ü نعود لموضوعنا الأساس، وهو تأجيل حفل افتتاح مشروع سكر النيل الأبيض، فقد حملت الأنباء أنه تم تأجيل الحفل من يوم الخميس- 5 أبريل- إلى وقت لاحق، وقيل إن السبب في ذلك التأجيل هو عدم الحصول على جهاز التشغيل الاليكتروني الذي يحرك الطواحين، وأن السبب وراء ذلك هو أن الشركة الاسترالية المفترض أن تزود إدارة المشروع بذلك الجهاز الفني «السوفتوير» لم تتمكن من استجلابه لأن شركة أخرى أمريكية هي التي تمدها بتلك الأجهزة قد امتنعت عن فعل ذلك خضوعاً لقوانين المقاطعة الأمريكية للسودان، فأسقط في يد الإدارة السودانية، ليستقيل وزير الصناعة، وعلل ذلك بقوله «نسبة لما سبنناه من حرج للشعب والدولة لعدم توفير برنامج التشغيل (software) بسبب المقاطعة الأمريكية»، لكن رئيس الجمهورية رفض استقالة الوزير عبد الوهاب محمد عثمان وأمر بتشكيل لجنة تحقيق في الموضوع. والحرج الذي يعنيه الوزير هو أن الحفل كان من المقرر أن تشهده وفود (56) دولة إسلامية تحضر الآن اجتماعات البنك الإسلامي للتنمية بجدة، المساهم الرئيسي في تمويل المشروع والمصنع والذي دفع (63) مليون دولار من تكاليف الإنشاء. فإذاً هذا كان هو ما دفع الوزير للاستقالة، فهو يستحق الشكر والثناء، خصوصاً وأدب الاستقالة وتقاليدها تكاد أن تكون معدومة في سلوك المسؤولين الحكوميين. لكن ما هو أهم، وإذا ما صح أن تأجيل الحفل كان بسبب عدم الحصول على «برنامج التشغيل»، الذي دفع باستقالته لما اعتبره تقصيراً «أحرج الشعب والدولة»، فإننا نقول إن سلوك الإدارة القائمة على تنفيذ المشروع هو «سلوك سوداني بامتياز»- سلوك الاستعداد للعيد يوم الوقفة- فهذه الإدارة المتخصصة في الشؤون الفنية المتعلقة بالتنفيذ لابد أنها تعلم مسبقاً من أين يأتي «برنامج التشغيل» أو «السوفتوير» المطلوب لتحريك آليات المصنع، لأنه ببساطة يدخل ضمن جدول المشتريات والمطلوبات الضرورية للمصنع، وبالتالي لا عذر لها أن تتفاجأ أو تفاجئ الجميع في اللحظة الأخيرة- لحظة الافتتاح- بأن «برنامج التشغيل لم يصل» بسبب المقاطعة الأمريكية، وإلا كان عليها أن ترتب أمرها بواحد من اثنين: إما أن تقيم الحفل دون تشغيل الماكينات، فالضيوف لن يطالبوها بتشغيل الماكينات ولن يكون ذلك من بين شروط حضورهم الحفل، أو أن لا تدعو للحفل أصلاً إذا كانت ترى أنه سيكون بلا معنى إذا لم يتم تشغيل الماكينات، وتنتظر إلى حين حصولها على برنامج التشغيل. لكن قضية التأجيل وأسبابه ربما (ربما) لا تكون فقط بسبب غياب «السوفتوير»، وقد تكون هناك أسباب أخرى وقفنا على بعضها من خلال ما نشرته الصحف. ü فقد وافتنا جريدة «الوطن» الغراء يوم الثلاثاء (3 أبريل) في صفحتها الأولى بخبر يقول: هدَّد المتأثرون من قيام سكر النيل الأبيض بالاعتصام السلمي (غداً الأربعاء)، وقال المتحدث باسم المتأثرين (محمد الأغبش محمد) إنهم يطالبون الحكومة المركزية بتنفيذ مطالبهم التي سلموها لمساعد رئيس الجمهورية عبد الرحمن الصادق المهدي، أو «تأجيل افتتاح مصنع سكر النيل الأبيض المحدد بيوم غدٍ (الخميس) إلى ما بعد معالجة قضيتهم. وقال الأغبش ل«الوطن»، عقب تسليمهم مذكرة بمطالبهم، إنه وعدهم بالحل، وتتركز مطالب المتأثرين في: تنفيذ توصيات اللجنة الرئاسية، وحسم الملف الجنائي الخاص (بالضحايا الأربعة والمصابين) وتحديد موعد زمني لاستلام مساحة مشروع سكر النيل الأبيض للاستفادة من باقي المساحة لمشاريع (محاربة الفقر) وتسوية ملف أراضي الملك الحر، وشملت المطالب (11) بنداً من بينها تشكيل آلية متابعة وتنفيذ من أبناء المنطقة بتفويض رئاسي للإشراف على المتابعة والتنفيذ. ü الخبر الذي أوردنا نصه أعلاه- كما هو- يفيدنا بأن المشكلة قد لا تكون في «برنامج التشغيل» أو «السوفتوير»، وقد يحملنا لأن نقدر بأن هناك مشكلة أكبر وأخطر دفعت القائمين على الأمر لاختيار التأجيل. وهو تقدير يطمئن له الوجدان لسبب بسيط ومنطقي، وهو أن حرج الاعتصام والاحتجاج من قبل أهالي المنطقة يشكل حرجاً أكبر ورسالة أبلغ من حرج غياب «السوفتوير» وعدم تشغيل المكاين أمام ضيوف الحفل العرب والأجانب الذين يحضرون الحفل بتدشين المشروع كنموذج للاستثمار الناجح. فهل كانت الحكومة والوزير والقائمون على أمر المشروع غير مكترثين أو آبهين لمثل هذا الحرج وأثره البالغ على رؤية الضيوف وحماستهم للاستثمار في بلادنا، وكان همهم الوحيد هو الحصول على «السوفتوير» الحامل للبرنامج لتشغيل المصنع أمامهم، وليذهب المحتجون والمعتصمون «في ستين داهية»، أم أن السبب الحقيقي وراء التأجيل هو الاحتجاج، ووجدوا في «السوفتوير» ذريعة مناسبة.. الله أعلم!