التحقيق الذي أجراه الصحفي النابه عطّاف محمد مختار حول تدريس الهلوكوست ضمن منهج اليونتي في خرطوم اللاءات الثلاث، لا يمكن أن يقرأ بمنأى عمّا أتحفنا به كرم الله الوالي الذي لا تنقضي عجائبه، وهو يدعو للتطبيع مع إسرائيل.. ولأن العقل الما ورائي يفترض دائماً أن ثمة خيط دقيق يربط بين الأحداث ويحركها من وراء الحجاب.. فقد آثرتُ في هذه المقالة أن أتخذ موقفاً وسطاً بين حد أعلى يقوم على التهويل، وحد أدنى يقوم على التهوين.. ولكن تبقى بعض الإثارات والإشارات المهمة التي لا تخطئها عين عاقل، ولا عقل ناظر، أرسلها في شكل تسآؤلات عاجلة، وهي هل يعقل أن مسألة بهذا الحجم والدلالة ما كانت لتصل إلى الرأي العام، إلا على مطية الصدفة المتمثلة في شكوى بعض أولياء أمور طلاب الصف التاسع بمدارس الاتحاد العليا بالخرطوم، من نزوع أبنائهم إلى حالة من التعاطف الشديد مع إسرائيل، ومناشدة إحدى التلميذات لأبيها قائلة «يا بابا اليهود ديل مساكين والله، واتعذبوا شدييييد، وإسرائيل دي ما بتستحق إننا نحاربها» في أكبر مفارقة لقلب الديالكتيك وتزوير الحقائق.. من المسكين أيتها المسكينة؟ من يحارب من؟ هذه العبارة وحدها تبين أثر البروبغاندا المحشوة في جوف المناهج المعرفية الأجنبية، والتي يسهل استساغتها وهضمها لتستقر في اللاوعي قبل أن تستقر في الوعي، وتختمر في الوجدان قبل أن تتسلل إلى العقل في شكل قناعات راسخة.. وإذا أُريد لنا أن نغوص بعمق في ثنايا هذه المسألة، لقلنا لماذا تُدرس هذه المادة تحديداً لطلاب المستوى التاسع لتلاميذ يستندون على ذكاء الحافظة أكثر من ذكاء النقد، ويعولون على الإستظهار أكثر من تعويلهم على الإستفسار؟.. ولماذا لا يقارب المنهج مسألة الهلوكوست على نحو نقدي ليقابل بين محرقة اليهود في ألمانيا، على يد النازية المتوحشة، وبين نكبة فلسطين على يد الصهاينة وفق العبارة الأثيرة للبروفيسور إدوارد سعيد «ما هو محرقة لليهود هو نكبة لفلسطين» ولماذا لم يعطِ المنهج قراءات موجزة لظلال الهولوكوست على راهن اليهود أنفسهم واستحلائهم للمزاوجة بين دوري الضحية والإجرام، في سياق شعوري واحد دون أن يشعروا بالتناقض؟ ولماذا لا يتم إختراق تأميم ضحايا الهولوكوست وتحويلهم إلى حلقة في تاريخ الصهويونية رغم مواقفها المتخاذلة إزائهم؟ ولماذا لا يغدو الهولوكوست ملكية عامة وليس حدثاً يهودياً إستثنائياً ومحصوراً في التوظيفات السياسية لإسرائيل؟ ولماذا لا يتم فضح أوروبا في مقايضتها الرخيصة للهولوكوست باستنبات دولة إسرائيل قسراً، رغم تناقضاتها مع حقائق التاريخ وعوامل الجغرافيا؟ قد يقول قائل إن مدى الدرس وحدود عقل الطلاب لا يسمحان بمعالجة مثل هكذا موضوعات، أقول صحيح ولماذا إذن تدرس المادة لطلاب لا تتسع آفاقهم لإرتياد هذه العوالم المحفوفة بالمخاطر الذهنية؟.. ومع ذلك فإنني أُدرك أن الأمر أكبر بكثير من مجرد تدريس الهولوكوست.. وأُدرك كذلك أن التغافل النظامي أكبر من حدود الإخفاق الرقابي الذي يمليه عليهم دورهم الوظيفي.. وأدرك كذلك أن ما قاله جوزيف ناي في مخطوطه المثير للجدل- القوة الناعمة- من أن أمريكا تعتمد على أبناء الطبقات الحاكمة الذين يدرسون في أفضل جامعات العالم، ويتلقون بالإضافة للمعارف ضروب القيم، وأنماط الحياة، مما يسهل تنميطهم وتوظيفهم وفق المصالح الغربية راهناً ومستقبلاً، ويستدل على ذلك بدور ابن مشرف في إقناع أبيه بمساعدة أمريكا في حربها على الإرهاب، وتحويل موقف باكستان الرافض إلى أقوى رافد يغذي المخابرات بأدق المعلومات والبيانات والإحداثيات عن القاعدة وطالبان، وأدرك أن ذلك يمكن أن ينسحب علينا إذا استرسلنا مع تنميطات الثقافة المدسوسة في جوف المعارف، ربما تعوّض الفجوة التي ترسلها مقولة فستركين في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمة الجدوى.. فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة» وأخشى على طلابنا الذين وجدوا أنفسهم في غمرة الحيرة ما بين الموروث القيمي، والثقافة العصرية، أن يجدوا صورتهم مرتسمة فيما نقله إلينا خيال الطيب صالح الواقعي، أو واقعه الخيالي، لا أدري حين قال على لسان أحد شخوص روايته «مصطفى سعيد رجل نبيل إستوعب عقله حضارة الغرب لكنها حطمت قلبه» ولنا عودة.