زارني أمس رجل يرتدي جلباباً أبيض وملفحة تتدلى على جنبيه كيفما تشاء.. حياني باسمي في مودة بالغة.. كنت اسأل ذاكرتي (يا ربي شفت الزول دا وين؟).. توفيق بذكائه أخرجني من ورطتي.. قدم لي نفسه ذاكراً لي أيام زمان في الجامعة. زميلنا توفيق مضى أكثر من مرة إلى جبهة القتال.. في واحدة من تلك الجولات فقد عينه اليمنى.. كان يبتسم ويعتبر أن العين لا تغلى على الواجب.. حسبت أن زيارة توفيق لها علاقة بالتطورات على جبهة القتال.. ربما يريد أن يستنفرني كما كان يفعل في السابق. توفيق يا سادة تحول من كادر سياسي ملتزم إلى قائد قبلي.. هذه المرة الأولى التي أدرك أن المكابراب عشيرة تنتمي إلى المجموعة الجعلية.. كنت أحسبها منطقة جغرافية.. لم أسأل من قبل عن بطاقة توفيق القبلية.. العشيرة استنفرته من أجل البحث عن قضاياها..(أخونا) توفيق مشغول هذه الأيام بشأن العشيرة.. أتراه نسي الوطن و(الوطني). ليس توفيق وحده من ارتدى لامة القبيلة.. بروفيسور محمد أحمد الشيخ أشطر طبيب سوداني ومدير جامعة الخرطوم الأسبق.. استدعته عشيرته ليرأس مجلس شورى القبيلة.. عبدالرسول النور حاكم كردفان الكبرى والكادر المعروف في حزب الأمة ضاقت به كل المنابر.. الوالي الأسبق يتحدث للإعلام هذه الأيام باسم قبيلة المسيرية مطالباً الحكومة بسحب اعترافها بدولة جنوب السودان. فكرة تسييس القبيلة بدأت حينما منح والي كردفان الكبرى قادة الإدارت الأهلية لقب أمراء.. في مملكة الحسيني بات شيخ القبيلة (سمو أمير) تخصص له الفارهات الجياد.. بدأت الحكومة تدخل أنفها في البناء التقليدي تولي النظارة من تشاء.. وتعطي تقرير المصير لبعض العشائر وتفرز لها عيشتها.. حتى الإعلام طبع علاقته مع الموضة الجديدة فصار يحتفي بملك القبلية الذي يزور الخرطوم. في الغالب جاءت إستراتيجية الاستعانة بالمكون القبلي في إطار حرب الإنقاذ على الحزبية والطائفية.. النتيجة أن الناس تركت الولاءات السياسية وارتدت إلى مربع القبيلة.. في دارفور مثلاً كانت طائفتا الختمية والأنصار تتقاسمان ولاء الناس.. في يومنا هذا حرقت القبيلة وجه دارفور المسالم.. حركات التحرير انشطرت على نفسها حتى باتت لكل قبيلة حركة تعبر عنها. الوزنة القبلية وصلت إلى داخل مجلس الوزراء.. المحاصصة جعلت الحكومة تستعين بشخصيات قليلة الكفاءة ولكنها مسنودة قبلياً.. مسؤول سياسي رفيع (جداً) ارتكب خطأ كبيراً حينما سأل (من باب الاستحقار) عن القبيلة التي تساند المعارض الكبير فاروق أبوعيسى.. واحدة من قبائل جنوب كردفان أعلنت العصيان على الوالي أحمد هارون لأن حصتها في الوزارة كانت أقل من التوقعات. المعارضة المسلحة في تحالف كاودا تتوكأ على عصا القبلية في حربها على الدولة.. الدعوة لإنصاف الهامش ارتدت رداء عنصرياً بغيضاً.. الاستقطاب الجهوي يولد استقطاباً جهوياً مضاداً.. في النهاية سيضيع السلام الاجتماعي في السودان. نحن الآن في أمس الحاجة إلى مبادرة اجتماعية تنبذ التنافر والتغابن وتؤكد أننا أمة واحدة.. من حسن الحظ أن التاريخ يؤكد ذلك.