ف قلنا وقال وشرح يطول محيرني ومتحيرْ وكل دقيقة تتغيرْ عشان دا قال ودا بيقول! أول نص لغنيوة أهداه أحمد فؤاد نجم الفاجومي للراحل الشيخ إمام مغنيه الشهير ü أُغنية أحمد فؤاد نجم- شاعر الشعب المصري- تنطبق نصاً وروحاً على الحالة المصرية الراهنة «محيرني ومتحير.. وكل دقيقة تتغير.. عشان دا قال ودا بيقول»، فمصر بعد ثورة 25 يناير لم تستقر على حال، وأجمع جل المراقبين والمحللين السياسيين على أن سر هذا الإرتجاج المستمر يعود بالدرجة الأولى إلى الخطوة الأولى الخاطئة التي قادت بتداعياتها إلى جملة من النتائج الخاطئة، فالخطأ الأول والأكبر الذي ارتكبه من كانوا في موضع القرار أو من أشاروا عليهم هو اللجوء للتعديلات الدستورية بدل التوافق على كتابة الدستور أولاً. ü كتابة الدستور، بوصفه العقد الاجتماعي الأساسي، والناظم للعلاقات بين المواطن والدولة من حيث الحقوق والواجبات، والمقسم للسلطات والاختصاصات بين أجهزة الدولة بأجنحتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، كانت كفيلة بتجنيب مصر الاجتهادات العشوائية والمقترحات وليدة اللحظة وتناسل الأزمات، ولكن من أسف فقد تم القفز على واجب «كتابة الدستور» واستعيض عنه بتعديلات دستورية طرحت للاستفتاء، فلم «تسمن ولم تغنِ عن جوع»، فجاعت مصر برغم كل ما لديها من علماء ورجال سياسة وقانون إلى الحكمة، فأصبحت تتقاذفها الأهواء ومُحتارة وكل دقيقة تتغير «عشان دا قال ودا بيقول»! ü آخر مشهدين سجلتهما حالة الحراك المصري «العشوائية» والمحيرة، هما تعليق مجلس الشعب لجلساته لمدة أسبوع والتدهور المفاجيء في العلاقات المصرية السعودية، تعليق جلسات المجلس جاء احتجاجاً على عدم استجابة المجلس العسكري لمطالبته بإقالة الحكومة، وهو حق لا يمنحه له الإعلان الدستوري الحاكم للفترة الانتقالية الذي يضع تعيين الحكومة وإقالتها حصراً في يد المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة، ويحدد صلاحيات مجلس الشعب (البرلمان) في رفض أو قبول بيان الحكومة دون أن يترتب على الرفض إقالة بسحب الثقة، خلافاً للأعراف والتقاليد البرلمانية المستقرة، وقد درج أعضاء الحكومة بما فيهم رئيسها كمال الجنزوري على عدم الاستجابة لتوجيهات ومساءلات مجلس الشعب، مثلما درج الجنزوري شخصياً على عدم حضور الجلسات التي يدعوه رئيس المجلس لحضورها، وما زاد الطين بِلةً هو ما أبلغه الجنزوري لرئيس البرلمان سعد الكتاتني في حضور د. محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة أخيراً بأن «قرار حل مجلس الشعب جاهز ويمكن أن يصدر في أي وقت»، الأمر الذي اعتبره البعض تهديداً وإن لم يفصح الكتاتني عن شعوره شخصياً بالتهديد، وأمس الأول (الأحد) عقد مجلس الشعب جلسته المعتادة، وطرح الكتاتني خلال تلك الجلسة الصاخبة قرار تعليق الجلسات احتجاجاً على سلوك المجلس الأعلى والحكومة، واكتفى بقول نواب حزب الحرية والعدالة «موافقون»، وحمل أوراقه من منصة الرئاسة وخرج، بينما أوضح أعضاء آخرون من حزب النور والوفد والأحزاب الأخرى أنهم لم يصوتوا أو يوافقوا على تعليق الجلسات بهذه الطريقة التي لم تؤخذ فيها أصوات النواب عبر التصويت الصريح، ولم يستشر فيها أعضاء الكتل البرلمانية، وجمع 165منهم توقيعات تعترض على التعليق. ü لم تمضِ سوى ساعات قليلة، حتى ذاع خبرٌ بأن رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير طنطاوي قد اتصل بالدكتور الكتاتني وأبلغه قراراً بموافقة المجلس الأعلى على إقالة حكومة الجنزوري، وتكليف الجنزوري نفسه بتشكيل وزارة جديدة، رجح أغلب المراقبون أنها ستكون بمثابة تعديل للوزارة القائمة مع إدخال ثلاثة أو أربعة وزراء جُدد، ربما يكون بعضهم من حزب الحرية والعدالة أو التيارات الإسلامية إذا ما رغب هؤلاء في الانضمام لها، وهي مشاركة مستبعدة كما قال أحد نوابهم، خصوصاً ولدى الحزب وجماعة «الإخوان المسلمين» مرشح لرئاسة الجمهورية، وإن المشاركة وما يترتب عليها من مشكلات في هذا الوضع المضطرب قد تكون خصماً على صورة مرشحهم وحزبهم. ü الدعوى المطالبة بحل مجلس الشعب، والتي وافقت عليها الإدارية العليا ورفعتها للمحكمة الدستورية، قامت أساساً على الطعن في قانون الانتخابات، ففي ذلك القانون خصصت ثلثا مقاعد مجلس الشعب للقوائم الحزبية ومنح الثلث الثالث للمقاعد الفردية والمستقلين، والطعن يشير إلى عدم عدالة هذه النسبة في التوزيع، فجُل المصريين ليسوا أعضاء في الأحزاب، وبالتالي حدث نوع من التمييز لصالح الأقلية المنظمة ضد أغلبية الشعب، وأقرت المحكمة الطعن ورفعته للمحكمة الدستورية التي ستنظر فيه اعتباراً من يوم السادس من مايو المقبل، وإذا ما أقدمت «الدستورية» على حل مجلس الشعب، فإن ذلك يعني العودة إلى «الصفر»، على حد قول النائب البرلماني والمرشح الليبرالي لرئاسة الجمهورية، لأن حل مجلس الشعب سيعني بالضرورة إبطال الانتخابات الرئاسية وكل التشريعات الصادرة عنه بما في ذلك تعديلاته على قانون ممارسة الحقوق السياسية الذي شرَّع لعزل بعض قيادات النظام السابق، وحذر الحريري من تصعيد الضغط على المجلس العسكري الأعلى كما يحدث من أنصار المرشح المستبعد حازم صلاح أبو إسماعيل وبعض القوى السياسية الأخرى كحركة (6 أبريل) و(الثورة مستمرة) وغيرهم من المطالبين ب«إسقاط حكم العسكر» والذين تجمعوا في منطقة العباسية في محيط وزارة الدفاع ودخلوا في اشتباكات مع حرس الوزارة غذاها عناصر البلطجية مدفوعين «بفلول» النظام السابق، ورأى الحريري أن مثل هذا التصعيد قد يقود الجيش وليس فقط المجلس العسكري، للإقدام على خطوة تقترب من الانقلاب العسكري إن لم تكن انقلاباً كاملاً. ü أما المشهد الثاني، وهو التدهور المفاجيء والخطير في العلاقات المصرية السعودية، فقد جاء نتيجة لحادثة فردية تتصل بالمحامي أحمد الجيزاوي الذي يعمل بالسعودية ويتابع قضايا بعض المصريين المحبوسين في المملكة أمام المحاكم، والذي نسبت إليه أقوال تنتقد نظام الحكم والعدالة في السعودية وسب أو ازدراء الذات الملكية، وتم احتجازه في المطار أثناء قدومه وأسرته من مصر إلى السعودية واختفى لمدة 6 أيام- بحسب أقوال زوجته في الفضائيات، قبل أن يسمح لها ولممثل القنصلية المصرية بمقابلته في حضور رجال الأمن والنيابة السعودية، وأعلن فيما بعد أن الجيزاوي محتجز بسبب تهريبه عقاقير محظور تداولها إلا بأمر الجهات الطبية، وأنها وجدت ضمن حقائب سفره، وأنه يخضع الآن للتحقيق مع السلطات المختصة. ü وغض النظر عن صحة أو خطأ ما نسب للجيزاوي من انتهاكات، سياسية كانت أو جنائية يحسمها التحقيق والمحاكم، تبقى حادثة الجيزاوي حادثة فردية، ولكنها مع ذلك ألهبت مشاعر المصريين الملتهبة أصلاً والمأزومة لأكثر من سبب، فتوجه بعضهم في تظاهرات صاخبة أحاطت بمقر السفارة السعودية في القاهرة ومقر القنصلية في السويس وأساءت للسفارة والقنصلية ولملك السعودية والأسرة الحاكمة بالكثير من العبارات المنطوقة والمكتوبة والشعارات المرسومة على الحوائط، مما اضطر المملكة لسحب سفيرها وطاقمها الدبلوماسي للتشاور، وأرجع البعض حساسية المملكة لما اقترفه الجيزاوي، لأن المملكة لا تريد أن ترى ما جرى في مصر وبعض بلدان الربيع العربي يتكرر في أراضيها، وهو تقدير بعيد المنال على الأقل في المدى المنظور، لكن في كل الأحوال فهو حدث ينُمُّ عن الهشاشة التي تميز العلاقات العربية العربية على وجه العموم، تلك العلاقات التي يمكن أن تتأثر أو تنهار نتيجة حادث فردي كذلك المتهم فيه المحامي أحمد الجيزاوي، نعم إنه تناسل الأزمات لغياب الحكمة الذي رافق التغيير الذي شهدته مصر على عظمته وأهميته.