كثير من الناس يحملون معتقداً مفاده أن الجنة التي هبط منها أبو البشر آدم عليه السلام وزوجه كانت هي الجنة التي تحدث عنها القرآن الكريم ملاذاً لعباد الله المخلصين يوم الدين، وهذا بالطبع معتقد يجانبه الصواب، ويجافيه منطق واقع الحال، فلو كان هذا الأمر صحيحاً لما صدع القرآن قبل آية الأمر بالنزول على الأرض بخمس آيات بالحديث إلى الملائكة قائلاً (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..) البقرة (30)، ولما قال صلى الله عليه وسلم في وصفه لجنَّةِ المآل ونهاية الترحال: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بش، ولما ضربها الله سبحانه وتعالى مثً للتقريب من الغيب المطلق ونزع منها المنغِّصات من عوامل الضيق في الحياة الدنيا (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه وأنهار من ثمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى...) محمد (15). هذه التقدمة تصاحبها مُعضِّدةً لحقيقة مكان الإكرام الواقع في نهاية المطاف تلك البشارة التي حملها لنا ذلك الرجل الذي جاء من أقصى وخاطبنا بروحه لا بلسانه ومن خارج الدنيا وهو يحكي (قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (27) يس.. أجلْ إن هذه التقدمة تقف مضادَّةً لقول الإنسان الذي ابتلاه ربه فأكرمه ونَعمهُ (ربِّي أكرمن)، كلا ليس هذا بالإكرام ولا قدرُ الرزق بالإهانة وإنما الأمر كلهُ متعلق بالبلاء والاختبار، وشتَّان بين الإكرامين، وشتان بين حال المكرمين في الدارين، فالإكرام أو الإهانة ليس مكانهما هذه الدنيا ولا جنة آدم عليه السلام التي كانت موقعاً لفترةٍ تدريبية تلَقَّى خلالها دروساً مفيدة منها توكيد عداوة الشيطان وإصراره على أن يرى الإنسان عاصياً لأمر ربه تحت ظلال مغريات عاشت مع الذريَّة وستظل كذلك إلى يوم الحشر الأكبر وهي حب الحياة وعشقها، وحب التملُّك بشتى ضروبه.. تمَلُّك المال والحياة والحكم والتسلُّط وما جرى هذا المجرى (... قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه (120). لقد فرحنا باسترداد هجليج، وحق لنا أن نفرح بهذا النصر فرحَ شكر لا فرح بطر، وبقدر قدر الفرح علينا أن ندرك جانب الاختبار ولا ننسى أن هذه التجربة هي وقفة رجعة إلى دواخل أنفسنا نستعرض خلالها سلوكنا تجاه الآخرين، يستعرض كلٌ منا شريط سيرته الذاتية في أمانةٍ وتجرُّد، أفراداً وجماعات، مدنية وحكومية، فالاعتداء لم يكن إهانة والاسترداد لم يكن إكراماً وإنما جوهر الأمر يتمثل في ابتلاءٍ يطالعنا بأسئلةٍ قاسية في جوهرها ومظهرها، أين نحن من الإحساس بشعور الجوعى من المساكين الذين يبيتون على الطَّوى، واليتامى الذين اختلت بوصلات مسارهم على سبيل الحياة، وأصحاب الرواتب الذين يقفون في دهشة وهم يشاهدون المعارك بين السِّلع ورواتبهم، علينا أن نراجع ما آل إلينا من حقوق هؤلاء ظلماً ومن غير حق لنا فيه حتى بَشِمَ بعضنا فأعماه البشمُ والبطر وارتفعت في أوصاله حرارةُ حبِّ جمع المال، أفاض به على نفسه وعلى ذوي القربى والمقربين، وأفاض في إعلاء جدار العزل بين كلمات الآية في موقع ذوي القربى من جانب والفقراء والمساكين من جانب آخر، لقد أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة أمير المؤمنين عمر طُنفُسةً فرآها عمر عندها، فقال: أنَّى لك هذه؟ قالت: أهدانيها أبوموسى الأشعري؛ فأخذها عمر فضرب بها رأسها ثم قال: عليَّ بأبي موسى، وقال له: ما يحملك على أن تهدي لنسائي؟ ثم أخذ الطُنفسة فضربه بها فوق رأسه وقال: خذها فلا حاجة لنا بها، وكان رضي الله عنه يمنع أزواجه من التدخل في شؤون الدولة. إذا أردنا لعقيدَتنا أن تحمينا من شرور الأشرار فعلينا أن نتعهدها بالصفاء والنقاء، وبسداد ديوننا خاصتها وعامتها، وإرجاع كلِّ كسبٍ مُعْوَجِّ المداخل إلى أهله، والإمساك عن اللُّهاث وراء تكديس التراث وحُبِّهِ، والإعجاز بكثرة الجموع المقاتلة، فقد انهالت مطارق العقاب على رؤوس أهل أُحد عندما استهوتهم الغنائم فعصوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أغنت كثرة العدد والعتاد يوم حنين حين قال أبوبكر رضي الله عنه: لن نُغلب اليوم من قِلّةٍ.. دعونا نقيم الموازين الحق، ونتخذ المكاييل القسط كيلاً واكتيالاً ولتحكي ظواهر أحوالنا عن بواطنها لنجتاز الاختبار بنجاح ونعبُرَ صِراط الابتلاء بفلاح، واللهُ من وراء القصد.