والمناراتُ يتواصل عطاؤها مدراراً ليحكي عن ِسيَرِ أنبياء الرحمن تربيةً وإرشاداً، فهذا آدم عليه السلام أبو الأنبياء، بل البشرية جمعاء يَتعرَّض لنفحات ربه إعداداً وتأهيلاً. وصل نبأ قدومه عليه السلام إلى الملائكة، فأبدَوا خوفهم من احتمال اتصاف هذا الخليفة الجديد بخلال قد تتصادم مع إيقاع الحياة الهادئة بخلوِّها من مصدَّاتِ الفضيلة المتمثلةِ في الفساد وسفك الدماء: «وإذ قال ربُك للملائكة إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خليفة قالوا أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبحُ بحمدك ونقدسُ لك قال إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون» البقرة «30». إن تفكير الملائكة كان محصوراً داخل دوائر حياتهم، وتقديرُ ربِّ الملائكة يسبح في دوائر الزمن المطلق النائي عن مناطق إدراك عقول المخلوقات «إني أعلم ما لاتعلمون»، ولكي يُسفر الأمرُ لكم عن حقائق تجهلونها أيها الملائكة، فخذوا هذا الاختبار الذي مفاده قيامكم بتلاوة هذه الأسماء التي تعلَّمها آدم عليه السلام «إن كنتم صادقين»، ومما زاد من يقين الملائكة بإحكام هذا التقدير الإلهي الذي خلع على القادم ثياب العيش في بيئة صِيغتْ جوانبُ استعدادها لاحتضانه، أجلْ إن مما زاد من يقينهم قوله تعالى « إن كنتم صادقين»، فالمتتبع لسياق الآية يتوقع ختامها بقوله تعالى «إن كنتم عالمين». فعدول الرحمن عن العلم إلى الصدق يرجع إلى علمهِ تعالى بما دار بين الملائكة في السرِّ والنجوى، فقد أسرَّ بعضهم إلى بعض القول: ليخلق الله ما يشاء ومن يشاء، فإنه لن يخلق من هو أعلمُ مِنَّا.. لقد جاءت خاتمة الآية بقوله «إن كنتم صادقين» لتشير إلى صدق نجواهم أو إلى غير ذلك، ولعل خاتمة الآية هذه تُعدُّ من بين أدِلَّاء الخائضين في بحور التفسير ومثيرات تفكيرهم لمزيد من التعمق في مرامي أعماق الكلم والبحث عن أسباب النزول بحسبانها ركناً من أركان تبيان المعاني وخفايا الإشارات الدالة على ما قد يصعب استيعابه على عامة الناس. ويأتي دور إبليس، وإبليس من الإبلاس وهو القنوطُ واليأسُ، وقد سُمِّيَ بهذا الاسم ليأسه والعياذ بالله من رحمة الله، لقد أتى دوره ليضع عقبة في طريق أبي الأنبياء بقوله: إنه أفضل منه، ولعل سياق المعاني وتربيبَها يقودنا إلى تصحيح مفهوم لدى بعض الناس منزعه كفر إبليس بالله، فإبليس لم يكن كافراً بوجود الله، كيف يكون كذلك وهو الذي تحدَّث إليه، إذن الصحيح فهو كافر بأنعم الله وهو المَرِيد الذي خرج من دوائر الطاعات إلى مضارب العصيان.لقد سَخِر الله تعالى من إبليس الذي رفض الطاعة والانصياع للأوامر والعبادات حين قال له: أم كنت من العالين، و«العالين» هؤلاء هم الملائكة المهيَّمون في حب الله تسبيحاً، كما لا يدرون عنَّا ولا عن كوننا هذا شيئاً، كما يدري ويدرك المكلفون بمهمات الوحي والرقابة والرياح والأرواح وغير ذلك من وظائف إدارة الكون. تعرَّض آدم عليه السلام للاختبار التأهيلي في صور تجارب خاضها ليقوى بها عوده وتنمو بها عزيمته المنسجمة مع علوِّ شأن الرسالة وعظمتها، لقد أصابته كبوات على الطريق وكان ربه تعالى لها بالمرصاد، فوفَّر له الدواء وتاب عن الزَّلات ليضع القائد على الجادَّةِ قدوةً تُتَّبعُ ومثالاً يُحتذى.