سنوات المعارضة بالخارج منذ عام 1989 وحتى يومنا هذا، لم تمكن كوكبة من الكوادر السياسية في مختلف الأحزاب للعودة الى أرض الوطن، بعد اتفاق القاهرة الذي أبرم ما بين التجمع الوطني الديموقراطي وحكومة حزب المؤتمر الوطني وحتى اتفاقية «نيفاشا»، التي فيها من النصوص ما يشجع على العودة والاستقرار في الوطن، خاصة تلك التفاصيل المهمة التي وردت في الدستور الانتقالي، من حيث اطلاق الحريات العامة، والنشاط الحزبي، الذي أصبح مشروعاً، وصولاً للانتخابات البرلمانية، ولكن للأسف الشديد ذلك لم يشجع الكثيرين على العودة النهائية لأرض الوطن، إلا نفراً قليلاً كان قد أتى في زيارات قصيرة للاطمئنان على الأهل والأحباب، وسرعان ما عاد الى مهجره ووطنه الجديد، الذي فرضته ظروف موضوعية في ذلك الزمن البعيد، ففي مؤتمر الحزب الاتحادي الديموقراطي وحده شارك اثنا عشر طبيباً سودانياً واتحادياً قدموا للعاصمة واشنطن من ولايات مختلفة، وهم يعملون في مستشفيات أمريكية وفي تخصصات مختلفة، ومشهود لهم بالكفاءة، والنجاح، والسمعة الطيبة، ناهيك عن الكم الهائل من الأطباء السودانيين الذين لا يتعاطون السياسة، أو البعض الذي ينتمي لأحزاب سياسية غير الاتحادي «الأصل»، وإذا كانت أمريكا نموذجاً صغيراً لهجرة العقول والعلماء السودانيين، فهناك كم كبير من الأطباء في استراليا وكندا والمانيا وهولندا، وأكثر من ألف طبيب متخصص في بريطانيا، وايرلندا.. وإذا ذهبت لأي جامعة في أوربا وأمريكا، لابد أن تجد أكثر من أستاذ جامعي سوداني يعمل بها، غير المهندسين والمحامين، وحتى رجال الأعمال من الشباب الذين يديرون شركاتهم واستثماراتهم في تلك الأماكن النائية وبعيداً عن أرض الوطن، الذي هو في أمس الحاجة لتلك النشاطات الاقتصادية، التي تدفع بالبلاد قدماً نحو مستقبل مشرق، ولكن للأسف لا توجد في بلادنا اي مبادرات لاستعادة تلك العقول والكفاءات الى أرض الوطن، والاستفادة من تجاربها الرائعة في دول العالم الأول في شتى المجالات المختلفة، كما أن هناك عدداً من القامات السياسية المنتمية لبعض الأحزاب السياسية التي كانت في المعارضة، لم تجد اي محاولات لعودتهم الى أرض الوطن والاستفادة من قدراتهم ومواهبهم السياسية، في تطوير وإدارة شؤون أحزابهم، التي عادت الى السودان بعد عدد من الاتفاقيات مع الحكومة، وعلى سبيل المثال كانت هناك أربع شخصيات في غاية الكفاءة السياسية بحزب الأمة القومي وتربطني بهم صداقة لم تنقطع، وهم: مهدي داؤود الخليفة- وحسن أحمد الحسن بأمريكا، والدكتور صديق بولاد بكندا، وصلاح جلال باستراليا.. حيث كانوا جميعاً- وفي زمن مضى الرئة التي يتنفس عبرها حزب الأمة، غير ذلك الكم الكبير من الاتحاديين ونشطاء الحزب الشيوعي السوداني، والذين جميعهم يتطلعون للعودة الى أرض الوطن، إن كانت هناك خطط وبرامج تسهم في استقرارهم واستقرار أسرهم، التي أصبحت كبيرة بمرور الزمن والسنوات.. أما على صعيد عودة العلماء والكفاءات في مجالات الاستثمار، وعلماء الطب، وأساتذة الجامعات، والمهن الراقية الأخرى، فعلى الدولة أن تقوم بواجبها بتوفير سبل الحياة لهم، لأننا كدولة نامية في أمس الحاجة لتلك العقول المهاجرة، التي تتطلع الى السكن أولاً وبالإمكان منحهم أراضي سكنية أو بناء مجمعات لاستقبالهم والاستفادة من قدراتهم المتفردة والمهمة.