من طرائف تراثنا وصف الشخص المزعج الذي لا ينفك عن إشاعة الفوضى والتخريب بأنه (ديك العدة)، وفحوى ذلك أن الديك الذي يقف وسط الأواني الموضوعة بنظام معين لكي تجف بعد أن نظفوها، هذا الديك من المستحيل تفادي فوضاه وتخريبه، فإن تركوه حيث يقف أعاد اتساخ الأواني بمخلفاته النتنة، وإن زجروه ذعر وارتبك وأخذ يعبث الفوضى في الأواني، فيكسر بعضها ويرمي ببعضها على الأرض المتسخة، وقد تذكرت هذه الطرفة عندما طالعت تصريحات وأقوال رئيس دولة جنوب السودان وهو يتحدث في المنابر عقب احتلال جيش بلاده لمنطقة هجليج السودانية. فلدى مخاطبته برلمان بلاده رفض سلفاكير ميادريت انسحاب قواته من منطقة هجليج، ومضى في اتجاه آخر تماماً حيث هدد بالسيطرة على منطقة أبيي، وطالب الأمين العام للأمم المتحدة بدعوة الحكومة السودانية لسحب قواتها المسلحة من أبيي، مهدداً باجتياح الجيش الشعبي لها عنوة في حال لم ينسحب الجيش السوداني منها، أما وزير الإعلام بدولة الجنوب برنابا ماريال بنجامين فقد مضى في اتجاه رئيسه مشترطاً الانسحاب من أبيي للخروج من هجليج! ومن هنا يتضح أن (ديك العدة) يقف برجليه وسط هجليج ويرنو بعينيه إلى أبيي وهو يردد في نفسه.. يا المرة يا الحمارة.. وكان كسبت التجارة المرة والحمارة.. ويا لها من معادلة هزلية في التعاطي مع الأوطان! إن هذا الطرح الهزلي أعاد أبيي مجدداً إلى واجهة الأحداث عقب الهدوء النسبي الذي سيطر عليها بعد الأزمة التي عاشتها المنطقة في مايو من العام الماضي في أعقاب نصب الجيش الشعبي لكمين أوقع شهداء من الجيش السوداني كانوا عائدين برفقة قوة أممية من المنطقة، مما قاد الحكومة السودانية إلى إعلان المنطقة منطقة حرب وقامت باجتياحها والسيطرة عليها، ثم شهد مطلع هذا العام 2012م وصول قوة أثيوبية إلى المنطقة وانتشارها هناك والتي يفترض أن يكون عددها (4400) جندي، وذلك في إطار معالجات الاتحاد الأفريقي للأزمة. وعلى أية حال يبدو أن دولة الجنوب تريد سواء عبر بوابة هجليج قبل الانسحاب منها أو غيرها بعد ذلك، أن تعيد الأوضاع في أبيي إلى المربع الأول ولكن مما يربك حسابات جوبا في المنطقة ليس هو الجيش السوداني وحده وإنما قبيلة المسيرية المنيعة والتي تقول إنهم وصلوا المنطقة عام 1765م بعد أن طردوا الداجو والشات من المنطقة، أما وصولهم إلى منطقة هجليج فلهم فيها رواية رومانسية تدور حول ثور يمتلكه أحد زعمائهم ويدعى حميدان أبو هزلة، وهو ثور ضخم كان يجتاز البادية في الفصل الجاف ويذهب وحده باحثاً عن الماء والكلأ، ولا يعود إلى الديار إلا بعد أن يبدأ الخريف، وعندما تتبعوه في إحدى رحلاته الغامضة وجدوا أنه يذهب إلى منطقة بكر خالية من السكان، غنية بالماء والكلأ وأشجار الهجليج فأطلقوا عليها اسم هجليج! أما دينكا نقوك الذين يمثلون مع المسيرية الغالبية العظمى والعريقة في أبيي فيقولون إنهم وصلوا إلى نفس المنطقة، ولكن قبل وصول المسيرية إليها. وفي عام 1905م ضمت المنطقة التي كان يسكنها دينكا نقوك ومنطقة قوقريال إلى مديرية كردفان آنذاك، وفي عام 1932م أعيدت قوقريال إلى مديرية بحر الغزال وبقيت أبيي في مديرية كردفان. وعندما أصدر الإنجليز قانون المناطق المقفولة عام 1922م خيروا سلطان دينكا نقوك كوال أروب بين الانضمام للجنوب أو البقاء في الشمال فاختار الشمال، ومرة أخرى في عام 1951م منح الإنجليز الخيار لدينكا نقوك تحت زعامة السلطان دينق مجوك بين الانضمام للجنوب أو البقاء في الشمال، فآثر أن يبقى في الشمال. ومما يؤكد الارتباط الوثيق بين أبيي وهجليج هو استنفار المسيرية لسبعة آلاف مقاتل لدعم الجيش السوداني في معركته لتحرير هجليج، وكما ذكرنا فإن هذه القبيلة هي التي تؤرق حكومة الجنوب وتربك حساباتها، فهم مقاتلون أشداء ومتمسكون إلى درجة التعصب بديارهم ولسان حالهم يردد مع سيدنا علي كرم الله وجهه عندما استنفر أهل الشام وهو يقول (والله إن إمرء يمكن عدوه من نفسه، يعرق لحمه ويهشم عظمه، ويفري جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره، فكن ذاك إن شئت أنت، فأما أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفيه يطير منه فراش الهام وتطيح السواعد والأقدام، ويعمل الله بعد ذلك ما يشاء).