نظام الحكم والإدارة في الدولة الحديثة وفي دول العالم الثالث يقوم على ملامح أسلوب الاستيلاء أو الوصول إلى السلطة.. فالنظم الديمقراطية التي يكون للشعب دور أساسي في إنتاج مؤسسات الدولة عبر الانتخابات والتمثيل، يسير نظام الحكم في إعطاء المؤسسات مساحة بارزة في ممارسة التشريع والرقابة والتنفيذ بصرف النظر عن هشاشة وضعف هذه المؤسسات، بينما الأنظمة التي تأتي نتاج الاستيلاء على السلطة عبر الانقلابات العسكرية والثورات المضادة، فنظام الحكم والإدارة يتوجه لتمركز السلطات في يد القائد الأوحد أو المجلس الحصري الذي يحكم الدولة وهي البداية للشمولية والديكتاتورية وتراجع المؤسسات. ما يجري هذه الأيام بأرض الكنانة شقيقتنا مصر من انتخابات لرئيس الجمهورية بعد انتخابات مجلس الشعب بناءً على خارطة الطريق نحو بناء سياسي ديمقراطي باختيار الشعب في ثورة يناير من العام الماضي والتي أطاحت بنظام حكم استمر لأكثر من ستين عاماً رغم التغييرات التشريعية وتناوب الرؤساء، إلا أن النظام ظل يستمد شرعيته ثورياً وأخلاقياً من ثورة يوليو 1952م بقيادة الراحل جمال عبد الناصر. لقد جاءت ثورة يوليو في عام 1952 ملهمة للعالم العربي ورفع الضباط الأحرار شعارات القومية والوحدة العربية، واستلهمت الثورة تاريخ مصر القيادي في المنطقة وحامية العروبة والإسلام من لدن الظاهر بيبرس وصلاح الدين الأيوبي، وتصدت الثورة للقضية المركزية للعالم العربي وهي قضية الصراع مع الإمبريالية والصهيونية ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي. تمددت الناصرية تياراً جارفاً وفكراً مؤسسياً في كل دول المنطقة، ولعبت مصر عبد الناصر دوراً مؤثراً في المحيط الإقليمي والدولي بقيادتها للعالم العربي. جاءت شعارات مصر أولاً في عهد الراحل السادات الذي استمد شرعية احتلاله موقع الرئاسة من انتمائه للضباط الأحرار، فقزّم دور مصر في القضايا القومية والعروبة، ثم جاء الرئيس المخلوع حسني مبارك للرئاسة مسنوداً بدوره في حرب أكتوبر قائداً لسلاح الجو المصري وفي عهده انكفأت مصر على نفسها وأصبح موقع قيادة العالم العربي مطمعاً وسجالاً بين دول وقيادات لا تملك الكاريزما ولا تستند إلى إرث تاريخي أو ثقافي وحضاري، فهزمت فكرة القومية وأفسحت المجال لتمدد التيارات الفوضوية والجماعات الأصولية المتطرفة اليمينية واليسارية. ما حدث ويحدث في مصر بعد ثورة يناير يعتبر نقلة تاريخية كبرى ليس لمصر وحدها، وإنما لدول المنطقة ودول العالم الثالث، فما تم الاستصلاح عليه بالربيع العربي والذي أطاح بعدد من عروش الديكتاتورية في المنطقة، أفرز أزمات أمنية وسياسية بين شعوب تلك الدول، بينما ربيع مصر فجر موروثات الحضارة والوعي في ممارسة الديمقراطية والحرية الراشدة والأخذ بمنهج الإصلاح الدستوري وسيادة القانون وتحقيق التفوق والريادة، ففي فترة ما قبل الثورة تركزت السلطات دستورياً بنسبة 70%في مؤسسة رئاسة الجمهورية التي يمثلها الرئيس، بينما مؤسسات الدولة الثلاث الأساسية مقهورة بالسلطات الواسعة للرئيس. إن الجدل والتدافع في انتخابات رئاسة الجمهورية في مصر يرتكز على البرامج القومية من المرشحين وتوجهات القوى السياسية والحزبية التي تنتمي إلى تيارات فكرية ومرجعات فلسفية ودينية في أسلوب ومنهج إدارة الدول في الفترة القادمة في السياسات الداخلية والخارجية. إن الربيع المصري في تفرده تتنافس القوى السياسية في كل المستويات على القضايا الكبيرة وبما يميز الشعب عن الشعوب الأخرى من تعليم ووعي، فقد غابت الجهوية والقبلية والمطالبية في تكوينات المجتمع المصري.