لا أعرف من الذي أدخل في عقول الذين يديرون أمر الاستثمار في بلادنا، أن الاستثمار يجب أن يكون ب(ملايين) الدولارات إن لم يكن ب(بلايينها)، وأن المستثمرين أنفسهم لابد أن يكونوا أجانب، من أصحاب الأسماء اللامعة والبراقة في دنيا المال والأعمال، ومن أصحاب (الفيزا كارت) الذين يقيمون في الفنادق الفخمة وتجري من أمامهم ومن خلفهم أساطيل السيارات ذات الماركات العالمية، وتسبق ذلك الأسطول الجاري على شوارع الأسفلت الدراجات النارية. الاستثمارات يمكن أن تبدأ بأقل القليل من المال، وقد تبدأ بدون المال في حال الأفكار الخلاقة والخيال المنتج المفيد، وهي- أي الاستثمارات- تعود بالفائدة لعدة أطراف، أولها الدولة التي يتم ويجري فيها الاستثمار، ثم المستثمر نفسه، إضافة إلى المجتمع المحلي الذي لا بد من أن يجني ثمار ذلك العمل من خلال فرصة التشغيل والتوظيف لأبنائه وبناته، ثم لابد له من أن يجني ثماراً أخرى تتمثل في تحقيق الوفرة التي تقود قطعاً إلى تدني الأسعار في حال طرح المنتج محلياً.. أو في توفير قدر كبير من العملات الصعبة في حال تصدير المنتجات الصناعية والزراعية. قوانين الاستثمار في بلادنا (قد) تكون مشجعة كنصوص ومواد قانونية، لكن الممارسات على أرض الواقع (منفرة)، وكم من مستثمر عربي جاء مشحوناً بالآمال إلى أرض النيلين، لكنه رضي بالإياب من غنيمة الاستثمار التي كان يحلم بعائداتها، التي لا تقف عند حدوده الشخصية فقط. يوم أمس الأول التقيت بالسيد سفير أثيوبيا الشقيقة في السودان، «أبادي زمو» الذي عقد مؤتمراً صحفياً في السفارة الأثيوبية دعا له الصحفيين وأجهزة الإعلام المختلفة، وقدم فيه شرحاً مختصراً ومفيداً لما تحقق في بلاده في كل المجالات منذ أن نجحت الجبهة الثورية في الإطاحة بنظام الدرك منذ واحد وعشرين عاماً، وتحدث عن الاستثمار وأفاض، وسأله زميلنا الأستاذ عبد المنعم أبو إدريس مدير تحرير صحيفة «الأحداث» الغراء عن حجم الاستثمارات في أثيوبيا وعدد المستثمرين.. وقد ألحقت بسؤاله ذاك سؤالاً آخر طلبت فيه أن يخبرنا السيد السفير بعدد المستثمرين السودانيين في أثيويبا. سألت السؤال وأنا أعلم أن كثيراً من رجال الأعمال السودانيين آثروا الخروج بأموالهم إلى أثيوبيا واستثمارها هناك، وقد زرت أثيوبيا خلال العام الماضي وحده ثماني مرات حصلت فيها على كثير من المعلومات بشأن المستثمرين السودانيين وحجم استثماراتهم هناك، وربما كان أكبر المستثمرين حجماً ووزناً هناك، السيد أشرف سيد أحمد (الكاردينال) الذي يستثمر ما لا يقل عن مائة مليون دولار هناك.. وآخرون تتدرج أحجام رؤوس أموالهم إلى أقل من ذلك بكثير. إجابة السيد السفير أبادي زمو كانت : (هناك خمسة وسبعون مستثمراً سودانياً بدأوا نشاطاتهم الاقتصادية في أثيوبيا الآن). أعرف بعض المستثمرين السودانيين من أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة (جداً) بدأوا يستثمرون في أثيوبيا بدءاً من العمل في مجال التبادل السلعي بين البلدين مروراً بالاستثمارات الصغيرة في المزارع المختلطة أو تربية وتصدير الدواجن، انتهاءً بالاستثمارات في مجالات الصناعات الدوائية والكيماوية وغيرها. لقد ترك أصحاب رؤوس الأموال السودانيون ميادينهم واتجهوا للخارج.. وعلينا أن نسأل أنفسنا عن السبب.. رغم أن الأسباب واضحة.