رُوّع المجتمع العاصمي والوسط الإعلامي قبل أسبوع، بالرحيل المحزن والمفاجيء لواحد من مبدعي الزمن الجميل، فنان أصيل، ورمز كبير في مجال الدراما الإذاعية والمسرحية والتلفزيونية، ظل خلال الأربعين عاماً الماضية يقدم عطاءً ثراً كممثل قدير، وكاتب نص متمكن، ومخرج موهوب. شارك في العشرات من الأعمال الدرامية الناجحة والخالدة، ثم رحل في صمت ونبل، مخلفاً وراءه ذكرى عطرة وسيرة حسنة وبصمات واضحة في ذاكرة الأمة الثقافية. ü عرفت الراحل المقيم عن بعد في البداية، وكنت من المعجبين بقدراته وأدائه، ثم شاءت الظروف أن نلتقي في عمل وطني كبير، وهو إعداد فيلم وثائقي عن وقائع إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 18 ديسمبر 1955، والذي أعقبته في مطلع يناير 1956 المسيرة التاريخية لأعضاء البرلمان من مقر المجلس القديم (مجلس تشريعي ولاية الخرطوم الحالي)، إلى القصر الجمهوري لشهود مراسم رفع علم السودان الحر المستقل، وإعلان ميلاد الأمة الفتية الجديدة. ü تعود القصة إلى عام 2006م، الذي صادف اليوبيل الذهبي لذكرى استقلال البلاد، إذ كونت لجنة عليا للإعداد للاحتفالات، انبثقت منها لجنة فرعية لتقديم تصور لإحياء الذكرى العظيمة والمسيرة الشعبية. وعهد إلى الدكتور عبد الملك البرير رئيس المجلس التشريعي لولاية الخرطوم آنذاك، برئاسة اللجنة الأخيرة. ü ارتأى الدكتور البرير وهو رجل ذو خبرة وأفق ومبادرة، ألا يكون الاحتفال تقليدياً ونمطياً، وأن من الأفضل تذكير الأجيال الناشئة بذلك الإنجاز الضخم، عبر إعادة المشاهد التاريخية لمداولات البرلمان في شكل عمل درامي، يقوم فيه ممثلون مقتدرون بتقمص أدوار رواد الاستقلال، واستخدام أدوات الإبداع الدرامي لتجسيد تلك المشاهد وبثها حية من جديد، وكأن الزمن قد عاد القهقري خمسين عاماً للوراء. ü ونسبة لعملي السابق في البرلمان، واهتماماتي بتوثيق التجربة البرلمانية السودانية، كُلفت من قِبل د. البرير بكتابة النص القانوني والبرلماني، مستنداً إلى محاضر الجلسات، كما عُهد إلى الأستاذ الريح عبد القادر بتولي الجانب الفني من إعداد وإخراج، مع الاستعانة بمن يراه من ممثلين ومختصين في مجالات الديكور والإضاءة والصوت وغيرها. ü بذل الأستاذ الريح جهداً خرافياً في إنجاز المهمة الصعبة التي أوكلت إليه، واستدعى لذلك خبراته الثرة، وروح الفنان المتأصلة فيه، كما وفق بدرجة كبيرة في اختيار طاقم الممثلين، ولما كان معظم هؤلاء من الجيل الجديد، حرص المخرج الموهوب عبر بروفات لا تحصى استغرقت شهراً كاملاً، على تهيئة الممثلين لتقمص أدوار الشخصيات المحورية، واستعان لذلك بالأفلام التسجيلية القديمة، وبالصور الشخصية، وبالسيرة الذاتية لكل من هذه الشخصيات، وركز بصورة واضحة على إبراز الخصائص والسمات التي عُرفوا بها، «الأزهري» ببدلته البيضاء الناصعة وحيويته الفائقة، «المحجوب» بقامته الفارعة وصوته الجهوري، «زروق» بأناقته المفرطة وطلعته المهيبة، زعيم البقارة نائب نيالا «محمد إبراهيم دبكة» (الذي قدم اقتراح إعلان الاستقلال) بزيّه القومي اللافت، «مشاور جمعة سهل» (نائب دار حامد) الذي ثنى الاقتراح بحضوره العشائري القوي، «بابكر عوض الله» رئيس البرلمان بوقار الرئاسة وحزم القضاة، «إستانلاوس بيساما» (النائب الجنوبي عن حزب الأحرار) بسحنته المتميزة وزيه الأفرنجي البديع، «حسن الطاهر زروق» (ممثل اليسار ونائب الجبهة المعادية للاستعمار) بسمت المعلم المتمرس والمفكر الجاد. ü تلك الجهود المضنية والبذل المخلص لفريق العمل تحت قيادة ربانه الماهر، لم تضع هباء، إذ انتهت بعون الله وتوفيقه بنجاح مذهل وفوز كبير. ü ولما كان المجال لا يتسع الآن لوصف تفاصيل تلك التحفة الدرامية الراقية، إلا أن مشهداً منها أحدث في نفسي أثراً لا يمكن محوه أو نسيانه على مدى الزمن، وهو مشهد رحيل القوات البريطانية وسيرهم في صفوف متراصة في محطة الخرطوم نحو عربات السكة الحديد المعدة لنقلهم، لقد أبدع الأستاذ الريح في إخراج فصل جلاء المستعمر، إذ استعان بالصور المتحركة للجنود وهم يمضون في خط سريع ورشيق، وفي ذات الوقت بث كمؤثر صوتي أغنية العطبراوي ذائعة الصيت والتي ارتبطت بالجلاء «يا غريب يلا لي بلدك»، عندها انداح المغزى السياسي لرحيل الأجنبي الدخيل، مع صوت العطبراوي الواثق القوي، مع الإيقاع السريع للأغنية، ليحدث ذلك زخماً بالغ الأثر عميق الإيحاء. ü بعد الفراغ من العرض الأول للفيلم ضجت القاعة بالتصفيق الحار، ووقف المشاهدون من كبار رجال الدولة من وزراء وقياديين إستحساناً وإعجاباً، ولقد كان من بين الحضور نائب رئيس الجمهورية، والفريق بكري حسن صالح، وبابكر عوض الله، والراحل محمد إسماعيل الأزهري، ولفيف من البرلمانيين والسياسيين والإعلاميين. ü للأسف الشديد فإن هذا العمل المتميز لم يلقَ حظه من الانتشار، إذ عرض مرة واحدة فقط في التلفزيون القومي وذلك عام 2006م، وكنت أتوقع أن يعاد بثه في المناسبات القومية والوطنية، للتذكير بذلك الإجماع الوطني، ولربط الجيل الجديد بالماضي التليد، ولاستلهام الدروس الوطنية والعبر السياسية. ü تزاحمت هذه الأفكار والمشاعر لديّ وأنا اتلقى نبأ الرحيل الحزين للأستاذ الريح عبد القادر، الذي توطدت صلتي به في السنوات الأخيرة، وكنت أحس بمعاناته وهو يكابد في صمت وإباء ضيق ذات اليد واعتلال الصحة، وقسوة الحياة. ü عندما بلغني نعيه الأليم، قفزت إلى مخيلتي صورتان متباينتان، صورة رحيل الأجنبي المفرحة بمحطة سكة حديد الخرطوم قبل سشبعة وخمسين عاماً، وصورة الرحيل الحزين للمبدع ابن البلد الأصيل الريح عبد القادر، وكأني بالمخرج يترك موقع الإخراج لينضم إلى الممثلين في مسرح الحياة ويغدو عنصراً من عناصر المشهد الدرامي الأخير قبل رفع الستارة. ü رحم الله الأستاذ الريح عبد القادر واسكنه فسيح جناته..