قرية (الدبيبة) بشرق النيل هي التى شهدت بداية رحلة أحمد المصطفى في دروب الحياة بالكثير من منحنياتها، على ان أميز مسار له في هذه الرحلة كان مسار الابداع الغنائي، حيث اصبح فيه من اعمدة هذا الفن بالسودان، وظل على راس مبدعيه حتى اشتهر بلقب (عميد الفن السوداني)، كما كان نقيباً لفنانيه بالاجماع. ولد فناننا الكبير في العام 1922م، ونشأ في اسرة بسيطة ومتدينة يمتد نسبها الى العارف بالله الشيخ إدريس ود الأرباب (المحسي المو كضاب)، وكان والد فناننا من حفظة القرآن الكريم، فكان لابد ان يكون لهذه البيئة تأثيرها على الصَّبي أحمد الذي ظل متديناً طوال عمره، ولابد أيضاً ان لفن المديح بألحانه وايقاعاته أثر في توجيه الصَّبي نحو الغناء، وذلك لما لفن المديح النبوي من وشيجة قوية بالفن الغنائي، خاصةً وأن منطقة شرق النيل غنيةٌ بفن الغناء وقد برز منها الكثير من أساطين هذا الفن. ومن الدبيبة انتقل أحمد المصطفى الى عاصمة البلاد الخرطوم) حيث عمل في شركة عبد المنعم محمد (ذلك المحسن حياه الغمام) كما قال أمير شعراء السودان محمد المهدي المجذوب)، وفي الخرطوم اتيحت لأحمد المصطفى فرصة الاستماع للاسطوانات عبر جهاز (الفونغراف) الذي كان منتشراً في المقاهي والبيوت الميسورة، ومن خلال مشاهدة الافلام السينمائية المصرية أحب أحمد المصطفى الفنان الكبير محمد عبد الوهاب وحفظ اغنياته، ولعل لذلك تأثير في تجويد تجربته الغنائية لاحقاً، وكانت البداية الجادة لهذه التجربة الفنية الغنية في مطلع الثلاثينات عندما تمكن من اغتناء آلة (العود) واتقن العزف عليها، وواصل مشواره الى ان أجازت الإذاعة صوته في اوائل الاربعينات، وقدم أول اغنية من تلحينه، ومن كلمات الفنان الراحل أحمد إبراهيم فلاح، وهى اغنية (عيوني هم السَّبب في أذايَا) وعندما برز أحمد المصطفى كفنان مرموق كان العالم يقعقع بالسلاح في جبهات القتال عند إندلاع الحرب العالمية الثانية، وكان جنود قوة دفاع السودان يشاركون في القتال بهدف ان تستقل بلادهم عقب الحرب كما وعد الحلفاء اهل المستعمرات، فذهب أحمد المصطفى والحاج محمد أحمد سرور الى الجبهة الليبية للترفيه عن القوة السودانية المتمركزة هناك، وفي هذا الإطار أيضاً قام أحمد المصطفى بالكثير من الرحلات الفنية للترفيه عن الطلاب والمغتربين السودانيين في العديد من الدول العربية والاوربية والافريقية وغيرها. ولفناننا الكبير علاقات وثيقة كانت بكبار الفنانين العرب وخاصةً محمد عبد الوهاب، الى جانب فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، والممثلة السينمائية الكبيرة أمينة رزق، بالاضافة الى المطربة اللبنانية الكبيرة (صباح) التى اشترك معها فناننا أحمد المصطفى في أداء اغنيته (رحماك يا ملاك) في فيلم (وهبتك حياتي)، وتجدر الإشارة هنا إلى ان الاستاذ أحمد المصطفى تغنى بقصيدتين من نظم شاعرين عربيين كبيرين هما أحمد راضي في اغنية (راحل مقيم)، وايليا أبو ماضي في (وطن النجوم)، كما سجل أحمد المصطفى الكثير من الأغاني لاذاعاتٍ عربيةٍ وافريقية و اوربية على رأسها إذاعة ركن السودان من القاهرة، والقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية وغيرها. ولعل أكبر خدمة قدمها أحمد المصطفى للفنانين السودانيين ولفن الغناء السوداني، تتمثل في انه أزال النظرة السلبية لفن الغناء وللفنانين من قبل المجتمع السوداني الموغل في محافظته آنذاك، والذى كان ينظر لفن الغناء باعتباره ضرباً من المجون واللهو، وللفنانين باعتبارهم (صِّيَاع) و(صَعاَليك)، ولكن بعدما اقتحم أحمد المصطفى ساحة الغناء، وبرز فيها، تغيرت نظرة المجتمع لهذا الفن ولمبدعيه، وذلك لما كان يتمتع به أحمد المصطفى من أدب وتهذيب وتدين، بجانب وضعه الإجتماعي المرموق.