غيب الموت المفكر الانساني رجاء (روجيه) غارودي بعد عمر ناهز الثامنة والتسعين، قضى اغلبه في مقارعة الأساطير ومحاولة تحطيم الاصنام في عالم استكان لتلك الاساطير وسجد مسبحاً لتلك الأصنام، سواء بحكم التعود والجهل او تأثر بالآلة الاعلامية الجهنمية الضخمة في الغرب، والتي من المعلوم إنها الآلة التي تمولها وتقود خطاها الصهيونية، والأخيرة كما نعلم هي أعدَّى أعداء المفكر الفرنسي العالمي المسلم غارودي. وبالعودة الى سيرة المفكر الكبير الراحل نقول إن غارودي كان منغمساً في قضايا الفكر منذ صباه، حيث انتمى للحزب الشيوعي الفرنسي محتقباً معه انتماءه المسيحي، وفي العام 1945م نال عضوية اللجنة المركزية للحزب، وبعد حوالي عقد زماني فقط ارتقى الى عضوية المكتب السياسي، ولكنه طوال نشاطه القيادي في الحزب لم يفِد نفسه بالخط الاستاليني الصارم الذي كان يسير عليه الحزب الشيوعي الفرنسي آنذاك، وكان يجاهر بأعلى صوته من خلال كتاباته بنقد الاستالينية، خاصةً بعد أن قام الاتحاد السوفيتي تحت قيادة استالين بالإعتداء على اقطار شيوعية حاولت التخلص من بين براثن الاستالينية، وكانت النتيجة المتوقعة هي طرد غارودي من الحزب في العام 1970م ليؤسس ويدير مركزًا للدراسات الماركسية استمر حتى عام 1980م اي قبيل إشهاره لاسلامه بسنتين أي العام 1982م. واعلان غارودي اعتناقه للإسلام كان له دوي عالمي مشهود في ميدان الفكر، وقد يعود هذا الدَّوي إلى مكانته العالمية كمفكر، سواء عندما كان مُنظِّراً فكرِّياً للحزِّب الشِّيوعي الفرنسي او عندما أُبْعد عنه، ولم يكن اعتناقه للاسلام مجرد (انحيازاً فكرياً) للاسلام مثل الكثيرين من المستشرقيين الغربيين، وانما كان اعتناقاً عقدياً بعمق انسلاخه عن الماركسية. ولعل تجاوز الدين المسيحي والفكر الماركسي في ذهن ووجدان غارودي كان من بين العوامل التى مهدت الطريق له في رحلته الى رحاب العقيدة الاسلامية السمحاء، كما ان تجربته الفكرية والدينية العميقتين والثريتين قادتاه الى انتماء اسلامي مستنيراً ومنفتحاً، خاصة وانه استصحب معه نزعته الانتقادية المتأصلة في عقله والتى قادت الى ابعاده من الحزب الشيوعي الفرنسي، واخرجته من حظيرة المسيحية، واوقعته بين براثن ومكر الصهيونية وفجورها. وانتقاد غارودي للصهيونية لم يكن وليد انتمائه للاسلام، وانما قبل ذلك وبعده، حيث هاجم بقوة الاجتياح الاسرائيلي للبنان متحدياً الآلة الاعلامية الغربية الصهيونية الجبارة التى صوبت نيران راجماتها تجاهه وبتركيز شديد، ولكنه كعادته صمد في شموخ وهو ينافح عن المبادئ التى يؤمن بها، وتواصل ذلك عندما هاجم غارودي مذبحتي صبرا وشاتيلا والتى قادها بنفسه الجنرال شارون. وتمثلت قمة السعار الصهيوني ضد غارودي في دفعه الى ساحة القضاء الفرنسي حيث حوكم بتهمة معاداة السامية وانكار المحرقة اليهودية خلال حكم النازي في المانيا، وذلك في كتابه الشهير (الأساطير المؤسسة لدولة اسرائيل)، ومعروف أن معاداة السامية، والتشكيك في أرقام المحرقة هما البقرتان المقدستان اللتان يهابهما كل غربي حتى وان كان لا يؤمن بالمزاعم الخرافية التى يروج لها الصهاينة، وهكذا كان من الطبيعي ان ينزوي غارودي وزوجته في كوخ صغير بإحدى ضواحي باريس ليعيشا في عزلةٍ وفقرٍ، ولعلي أرى مشروعية في السؤال التالي: ماذا قدَّمنَّا نحن العرب والمسلمين لغارودي في فقره ومعتزله؟ والإجابةُ معروفة!ٌ