«والله وليد مرة كضاب» من الأمور التي لا يختلف حولها اثنان، رسوخ اسم مدينة الفاشر وحضورها الدائم في الأذهان كمدينة عريقة ذاع صيتها وضربت جذورها الممتدة في أعماق التاريخ، منذ أن أقدم على تأسيسها ووضع لبناتها الأولى السلطان عبد الرحمن الرشيد في عام 1792م حينما كانت تعرف باسم «تندلتي»، هذه المدينة لا زالت تسند ظهرها وتتكيء باطمئنان شديد على إرثها وتاريخها التليد، الذي يعبر عن مكانتها السامقة التي صنعها السلاطين الذين تسنموا ذمام الأمر فيها من أيام السلطان علي دينار مروراً بواليها الحالي عثمان محمد يوسف كبر، والأخير له من الإشراقات ما لا تخطئه العين، ففي عهده خطت الولاية خطوات واضحة إلى الأمام انطلاقاً على دروب التنمية العمرانية التي أولاها السلطان كبر عناية خاصة، يراها ويشهد بها الزائر لمدينة الفاشر منذ الوهلة الأولى. تعاقبت الأيام والشهور، حتى بلغت في مجملها ستاً من السنوات، لم يتيسر لي خلالها زيارة فاشر السلطان، تلك المدينة الفاضلة التي لا زالت تتجاذبنا نحوها لواعج الشوق الجارف والحنين الدفاق، فهي من المدن السودانية التي علقت بأركان الذاكرة، منذ أن وطئتها أقدامنا لأول مرة بعد منتصف الثمانينات، عندما هبطنا أرضها وقتذاك نحن مجموعة من الإذاعيين، دفعت بنا إذاعة نيالا في عهد مديرها الراحل حسين أبو العائلة، لنقل فعاليات احتفالاتها بأعياد الانتفاضة الشهيرة التي زلزلت أركان حكم النميري، وأطاحت به في غضبة جماهيرية شهيرة. من حينها تمدد حب الفاشر في الوجدان، واحتلت سيرتها مكامن الإعجاب، وتربعت في أعماق الأفئدة وسويداء القلوب. سبب هذه «الرمية» على طريقة د. البوني، طربي الشديد لزيارتها بعد غياب طويل في الأسبوع الماضي، تلبية لدعوة كريمة تلقيتها من الأستاذ الصديق جمال عنقرة لمرافقة صالون الراحل سيد أحمد خليفة، الذي قرر أقطابه نقل نشاطه المعلوم لأول مرة خارج نطاق الخرطوم، بعيداً عن منزل الراحل نفسه، مصوبين الأنظار تجاه فاشر السلطان التي تلقفت الفكرة، وفتحت أحضانها المشرعة لاستقبال أسرة الصالون، التي جمعت بين ثناياها رهطاً مقدراً من رؤساء التحرير وكبار الصحافيين والإعلاميين والفنانين والتشكيليين، نزلوا جميعاً ضيوفاً كراماً في رحاب والي شمال دارفور وأعضاء حكومته. فجر الجمعة قبل الماضي، وقبل أن يفصح الصبح عن ثغره الباسم، كنا في مطار الخرطوم، فلما بدأت خيوط الشمس تتسلل إلى الوجود، بدأت الطائرة تحوم حول أجواء الفاشر، تقترب رويداً من مطارها الأنيق، فعندما بدأت عجلات طائرة سودانير تلامس أرض المطار، نظرت من خلال النافذة، أقرأ سطور الماضي، متأملاً ملامح بلد السلاطين لعلي أستعيد شيئاً من الذكريات الندية التي ربطتنا سنين عددا بمدينة الفاشر وأهلها الأخيار، فكلما فارقتهم وغادرت ديارهم المضيافة، ينتابك عنوة هاجس قوي، يشدك نحوهم بإلحاح قوي بضرورة معاودة زيارتهم من جديد، فالفاشر من المدن التي يتجدد شوقها بقوة وعنفوان شديد. في ذاك الصباح الزاهي الجميل، خرجنا من جوف الطائرة العميق نزولاً إلى بهو مطار الفاشر الوسيع، لنحظى باستقبال فريد، قوامه زمرة من المسؤولين والأعيان وكرام القوم، كان أول ما لفت انتباه الزائرين، ومن بينهم من يزور الفاشر لأول مرة، منهم صديقنا أبو بكر الزومة، الهدوء الذي أحاط بالمدينة والقى بظلاله عليها، شعرنا بالأمن والطمأنينة ونحن نتجول في أرجاء المدينة الآمنة التي يدمغها الكثيرون بالتفلت وعدم الأمان نتيجة الظروف الأمنية التي تعيشها، وجدنا في الفاشر كل شيء في مكانه هادئاً، ساكناً وطبيعياً، من خلال تحرك الناس في الطرقات وممارسة حياتهم داخل الأسواق، دحضاً لكل الدعاوى والأقاويل التي يروج لها البعض بوصفهم الجائر للفاشر بأنها مدينة اعتادت منذ أن نزل بها الابتلاء، أن تغمض عينيها وينوم أهلها ملء شواردهم على أزيز المدافع وأصوات الدانات، وأنات الحرب اللئيمة، في مساء اليوم ذاته، تجولنا بحرية في أنحاء المدينة الواسعة، زرنا محطة الكهرباء الجديدة التي ستحيل ظلام الفاشر إلى صباح مسفر، ووقفنا عند طريق الإنقاذ الغربي قطاع الفاشر أم كدادة، ذاك الحلم الذي ينتظره أهل الإقليم كله، ومن بعده تعرفنا على أبعاد السلطنة بزيارتنا لمتحف السلطان علي دينار الذي يكفيه فخراً أنه كان يضرب أكباد الإبل من فاشره العتيق، لكسوة الكعبة المشرفة وإغاثة ضيوف الرحمن، لينتهي بنا المطاف في المساء بحضور فعاليات الليلة الثقافية التي أقيمت بالمنتجع الفخيم، أصابت أسماعنا خلالها صنوفاً من الغناء الدارفوري الأصيل، وبعض أغنيات قافلة النغم الجميل التي كانت في معية الصالون، نثرها الفنان جمال النحاس وفرقة درر الرصافة، بينما عبّقت الشاعرة ميقات إبراهيم المكان بحروفها الخضراء وشعرها الآسر البديع. نواصل...