في أواخر مايو كثرت التظاهرات خاصة الطلابية، وكان أحد أقربائي عائداً من أوروبا- المانيا- بعد غربة طويلة.. وكان يتجول في العاصمة مثل السواح وذات يوم وجد مظاهرة طلابية حاشدة في طريقه فسأل: لماذا هذه المظاهرة؟ فقالوا لتحقيق مطالب طلابية.. فقال هي مطالب مشروعة وشارك في التظاهرة وكان شكله مميزاً خاصة«البايب» الذي يستخدمه، وبعد حين تصدت الشرطة للمظاهرة فلم يجرِ مع الجارين.. والقي القبض عليه، وعندما تحروا معه قال لهم بكل بساطة إنه ساهم معهم لأن مطالبهم مشروعة.. أخيراً اكتشفوا فكرته.. فأوضحوا له إن هنا ليست مثل اوروبا ولا توجد مظاهرة مشروعة كلها غير مشروعة.. وأخذوا منه تعهداً بعدم تكرار هذه الممارسة.. لكنه لم يقتنع وظل يردد إنه لم يقم بأي سلوك تخريبي أوعدواني وإن هذا حق من حقوقه.. التعبير السلمي والاحتجاج الصامت حق مشروع للمواطنين، لكن يُمنع هذا التعبير لأن المتظاهرين ربما يندس بعض الأشقياء وسطهم، وربما لأنهم لم يعتادوا على التعبير السلمي.. يلجأون للتخريب لممتلكات الدولة .. قال لى أحد الشباب البعثيين وكان عائداً من دراسة في سوريا، إنه في مظاهرات في السوق العربي قبل عدة أشهر كان مراقباً لها ولم يكن مشاركاً.. لاحظ أن مواطنين من تجار الذهب قد ألقوا القبض على بعض المتظاهرين ثم سلموهم للشرطة.. وعندما عاتبهم بعد هدوء الأحوال.. أوضحوا له إن التظاهر يعطي فرصة للشماسة والأشقياء للاندساس وسطهم، ومن ثم ينهبون حوانيتهم، وما كان هذا الإجرء إلا حماية لأنفسهم ولممتلكاتهم.. قلت له هذا يعني أن للتظاهر فنون في اختيار الوقت المناسب والمكان المناسب، كما أنه يعني عدم التنظيم أساساً للتظاهر.. وإنه لايتم بهذه العشوائية فينبغي أن يحدد مسار المظاهرة.. كما ينبغي التشديد على التعبير السلمي.. عندما هبت ثورة اكتوبر كنت في الرابعة عشرة من عمري.. وشاركت في تظاهرة من أمام مدرسة أم درمان الأميرية حتى وصلت الى القصر الجمهوري بالخرطوم، ورغم صغر سني قد لاحظت إنه لم تمتد يد إلى تخريب أي شيء، بل إن مزهرية قبالة القصر سقطت بسبب التدافع، فعمل البعض على إعادتها لوضعها دون أن تتأثر.. هذا الحرص على الممتلكات العامة كان دأب المواطنين آنذاك وبسبب ذلك نجحت الثورة الاكتوبرية، وأصبحت تدرس في فنون الثورات، بل جاء في الأخبار العالمية إن شعب السودان إستطاع أن يسقط الحكومة العسكرية بالهتاف ورفع الأغصان.. يحكى عن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر عندما كانت تأتيه التقارير الأمنية بأن الوضع مستتب خاصة في الجامعات، وأنهم منذ أشهر لم يقوموا بتظاهرة كان يقول لهم: يخرب بيوتكم خلوا العيال يتنفسوا شوية وحرضوهم على التظاهر لا أدري صحة هذه الواقعة، لكنها حتى إن لم تحدث فهي كناية عن كون التنفيس ضرورة حتى مع الإدارات.. فهنالك في بعض المؤسسات الغربية حجرات للتدخين لكن فيها يتم نقد المدراء.. والمدراء يعرفون ذلك ولايحتجون عليه لأنهم جربوا ضرورته عندما كانوا مرؤوسين!! }}