نعيد نشر زاوية الأمس، التي جاءت تحت عنوان (الخرطوم.. عاصمة بلا صحافة.. قريباً) والتي أحدثت ردود أفعال واسعة على مستوى العاملين في مجال العمل الصحفي وخارجه. أول ردة فعل كانت من الزملاء داخل الصحيفة، وقد أعلنوا صراحة عن رفضهم للقرار القاضي بمضاعفة أسعار الصحف، وقالوا إنه يهدد بنهاية عهد الصحافة الورقية، وكانت لهم تحفظات كثيرة، ثم توالت ردود الأفعال من عدد من ملاك وناشري ورؤساء تحرير لبعض الصحف، وجدتُ أنهم يتخوفون من القرار وآثاره السالبة، والأعباء المالية الجديدة التي يلقي بها على كاهل المواطن (قارئ الصحف) الذي يجب أن ننصره وأن ننتصر له لا أن ننتصر عليه. تحركنا بسرعة على مستوى مجلس الإدارة، وناقشنا الأمر عن طريق الهاتف، ورأينا أن نجتمع اليوم، عسى ولعل أن نجد لنا طريقاً ثالثاً يقينا شرور الانزلاق في طريق الزيادات (المضاعفة)، وعسى أن يجعل الله لنا مخرجاً. *** من المصادفات الغريبة أن يوم الاثنين القادم الموافق التاسع من يوليو الجاري سيشهد حدثين مهمين، على علاقة وثيقة ببعضهما البعض، الأول هو قرار مُلاك وناشري الصحف بتطبيق الأسعار الجديدة للصحف السياسية، والتي تجيء مضاعفة عما هي عليه الآن، أي أن سعر الصحيفة السياسية سيكون جنيهين بدلاً عن جنيه واحد. أما الحدث الثاني فهو انعقاد ورشة عمل بقاعة المؤتمرات ببرج الاتصالات- بري- بعنوان «التشاركية بين الإعلام وتقنيات الاتصال والمعلومات» التي تنظمها وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات بالتنسيق مع المؤسسة السودانية لتطوير تقانة المعلومات، وتناقش الورشة التطورات التي يشهدها قطاع الاتصالات والمعلومات والتي أفرزت تحولات ضخمة وكبيرة في بيئة وسائل الإعلام وسمات القائمين بالاتصال، وهو ما القى بظلاله على الوظائف التي يقوم بها الإعلام في المجتمع.. وذلك حسبما جاء في رقعة الدعوة التي جاءت إلينا ضمن المشاركين في النقاش. الرابط بين الحدثين موضوعي ومنطقي، إذ أن الطفرة والتطور التقني في مجالات الاتصالات والمعلومات أحدث بدوره قفزة نوعية عظيمة في مجال صناعة الصحافة، من حيث سرعة الخبر وتوفر المعلومات وتطور أساليب الإخراج وجودة «المُنْتَج» الصحفي والطباعي، لأن الطفرة التقنية لحقت بالمطابع التي أصبح أكثرها يعمل الآن وفق منظومة برامج تقنية خاصة. لكن المحزن في هذا الأمر، بل المفارقة فيه، إن ذلك شكل انحساراً في مجالات التوزيع بالنسبة للصحافة، ليس في السودان وحده، بل في كثير من دول العالم لأسباب عديدة ومتفاوتة، أهمها أن ذات الطفرة التقنية خدمت وأفادت الوسائط الإعلامية الأخرى، مع توفير خدمة البث الفضائي عن طريق الأقمار الاصطناعية، وهو ما أفقد الخبر «حرارته» و«سخونته»، إذ أن الفضائيات وأجهزة البث المحلية أصبحت تتنافس في بث الأخبار ومتابعتها إلى الدرجة التي مّيزت بعض الفضائيات عن غيرها في تغطية أحداث معينة- الجزيرة مثلاً- أو إلى الدرجة التي حققت ميلاداً واسماً وشهرة لبعض الفضائيات التي ارتبطت بتغطية «حدث ما» في«فترة ما» وخير مثال لذلك تغطية قناة السي إن إن «CNN» الأمريكية لحرب الخليج التي كانت هي المنتصر الوحيد فيها. دور الصحافة في جانب الخبر أصبح مثل دور الموثِّق، أو المدَوِّن الذي يميل إلى تقديم تفاصيل أكثر، وأصبح الرأي المتمثل في الأعمدة والزوايا الصحفية والتحليلات السياسية والاقتصادية والأمنية، والحوارات ومتابعة النشاط المحلي الأكثر شعبية وجماهيرية، هو الأهم في الصحافة اليوم. تراجع توزيع الصحف، وسيتراجع أكثر، وأصبح الشباب يقرأون الصحف من خلال مواقعها الالكترونية، وعن طريق خدمات الانترنت في الموبايل وكذلك يفعل المغتربون، ومتابعو الشؤون الخاصة والعامة ببعض الدول، بدءاً من أجهزة المخابرات الأجنبية مروراً بأساتذة وطلاب الإعلام، انتهاءً بالجالسين على «دسك» الأخبار في المحطات الإذاعية ومحطات التلفزة والفضائيات الخارجية، لاستقاء المعلومات، أو للتواصل مع عدد من الكتّاب للاستفادة من تحليلاتهم للأحداث. الأمر لم يقتصر على ذلك وحده، بل تدخلت السياسات الاقتصادية والدولار والسعر الموازي وارتفاع تكلفة الطباعة في المطابع الحديثة والقديمة على السواء، لأن الأولى تتحمل قيمة التطور التقني والثانية تدفع ثمن التخلف الذي يوشك أن يطيح بها، ويبعدها عن المنافسة. اجتمع ناشرو الصحف منذ فترة طويلة، وظلوا يجتمعون ويملأون القاعات بالحديث والأرقام والدراسات وقشر الكلام، ولم يعد هناك مفر. نعم.. بالأمس أزفت الآزفة، وقرر الناشرون رفع أسعار الصحف السياسية إلى جنيهين، في محاولة منهم لامتصاص بعض الخسائر التي يجابهونها، وكنت منذ البداية ضد هذه الزيادة، وقد ناقشنا- على مستوى «آخر لحظة»- هذا الأمر في أكثر من اجتماع لمجلس الإدارة، وكنا نرى أن يعمل الناس على تفادي هذا العبء الجديد الذي سيقع على كاهل المواطن الذي تلهب ظهره السياط من كل جانب، ويتحمل ثمن إخفاق الحكومات والتجار والمؤسسات.. وقدمنا أكثر من مقترح لتفادي هذه الزيادة وطالبنا أكثر من مرة- حتى اجتماع الأمس- بتكوين اتحاد للناشرين، لوضع السياسات الخاصة بتسهيل عمل الصحف، مع تكوين مجلس لرؤساء التحرير، سبق لنا أن دعونا له ونجحنا في ذلك، لكنه اجتمع اجتماعاً واحداً يتيماً رغم أننا رأينا أن تكون رئاسته دورية وشهرية. وقعت الواقعة.. وقلنا بالصوت العالي داخل الاجتماع يوم أمس إننا ضد الزيادة المقترحة، لكن هذا هو رأي الأغلبية، وكنا نرى أن يتم تكوين اتحاد الناشرين أولاً ليمارس الضغط على الحكومة ومؤسساتها لإعفاء الصحف من الضرائب المتمثلة في ضرائب الأرباح والقيمة المضافة، بدلاً من المطالبة ب«الدعم المباشر» أو إعفاء مدخلات الطباعة من الجمارك والضرائب. اعترضنا على الزيادة، لكن صوت الجماعة كان هو الأعلى.. لكننا نخشى أن يستيقظ الناس ذات يوم، فلا يجدون أمامهم صحيفة سودانية تصدر في عاصمة بلادهم، لتنطبق علينا مقولة رائد الصحافة السودانية الشيخ الأستاذ حسين شريف: «شعب بلا جريدة كقلب بلا لسان». اللهم امنحنا الصبر والظفر، وثبت أقدامنا، وبلغنا غاياتنا التي ترضيك، وارضِ عنا واغفر لنا وارحمنا.. يا أرحم الراحمين.. آمين.