ü عشية (17 رمضان)، مدفع الافطار يدوي في أنحاء «المحروسة» مصر. لكنه كان «إيذاناً» -وفق الخطة- بدوي آخر.. دوي رصاص غادر على رؤوس ضباط وجنود الاحتياطي المركزي الجالسين لتناول طعام الإفطار في مقر مفرزة الحراسة قرب رفح.. فإذا بمصر كلها -من العريش الى ابو سمبل- تقف مشدودة على أطراف أصابعها تتابع ما جرى، تتأمل الماضي وتتحسب للمستقبل. ü الحصيلة الأولى والفورية (15) -وقيل (16)- قتيلاً و7 جرحى، والقتلة يستولون على دبابتين- أو مدرعتين- يعبرون بإحداهن الحدود الاسرائيلية لتتعامل معها مروحيات «الأباتشي» الاسرائيلية وتحيلها الى رماد، وتنغرز عجلات الثانية في رمال سيناء وتتعطل في انتظار «النجدة» المصرية.. ü لم تمضِ سوى ساعات قليلة على الحدث، حتى انخرطت مصر كلها، والمراقبون من حولها في جدل التخمينات والتوقعات والتحليلات والسيناريوهات.. حول ما هي الجهة التي تقف وراء الحادث الذي اتصف بالغموض، برغم إعلان منظمات وصفت نفسها ووصفوها ب(الجهادية) عن مسؤوليتها، ولا.. دليل يؤكد أنها «المسؤولة» حقاً أو يؤكد «جهاديتها الإسلامية». ü آخرون - من منظري التيار الإسلامي- كحلمي الجزار أو جمال سلطان رئيس تحرير «المصريون» يتحدثون للفضائيات- قناة النيل الإخبارية- باطمئنان شديد وب(اعتذارية) لا يُخطؤها ذكاء المشاهد بأن تلك العملية الاجرامية بكل خستها وغدرها وقسوتها لا يمكن أن يرتكبها «مصري» أو «مسلم»، وأن على الجميع البحث عن الجاني وفق النظرية الجنائية، التي تقول «فتش عن صاحب المصلحة» الذي هو في هذه الحالة ليس غير اسرائيل وأجهزة مخابراتها.. اتفق الرجلان على أنه إذا لم تسفر نتائج البحث والتحري عن الوصول الى جماعة محددة في مصر أو في غزة ولم يتم التعرف على هوية القتلة واختفت آثارهم بين رمال الصحراء، وسراديب الأنفاق، وطوابق البنايات، فإن الاحتمال الوحيد الباقي سيكون فرارهم الى حضن «ملاذهم الآمن» صاحب المخطط الجهنمي «المخابرات الاسرائيلية». ما يعزز الشكوك حول الدوافع وهوية المنفذين، هو أن العملية شكلت حرجاً بالغاً للسلطة المصرية الجديدة، التي يقودها الإسلاميون، والسلطة الإسلامية في غزة بقيادة حماس، وجرت في توقيت لا يقل إحراجاً، يوم زيارة رئيس وزراء غزة اسماعيل هنية لمصر والاجتماع بالرئيس مرسي.. فأصابع الاتهام العلنية، خصوصاً من جانب الأجهزة المصرية أشارت منذ اللحظة الأولى الى ما وصفته ب«التنظيمات الجهادية» في سيناء، وإنها جرت بتعاون وثيق وتسللات للرجال والسلاح عبر الانفاق الواصلة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية.. وهو اتهام تصدى له على الفور متحدثون إسلاميون ونسبوه الى الرغبة في اتهام الإسلاميين وتوريطهم خدمة لأجندة سياسية داخلية، مطالبين تلك الجهات بتقديم الدليل ومهددين بملاحقتها قضائياً إذا لم يتم إثبات الاتهام. ü ما يجعل الأجهزة الأمنية المصرية ترجح أن تكون بعض التيارات الإسلامية المتطرفة الجهادية أو التكفيرية قد أقدمت على مثل هذا العمل، ويبرر مسارعتها بالاتهام لهؤلاء، هو تجاوب تلك الأجهزة والمتكررة عبر العقود مع هذه التنظيمات المتطرفة، وطرائق عملها، وما تحويه سجلاتها من معلومات حول عناصرها، وأماكن تواجدهم وأحداث الأقصر، وما شابهها والفتن الطائفية العديدة.. وما جرى أخيراً في العريش، والرقابة الأمنية اللصيقة لما يجري في سيناء وشمالها على وجه الخصوص، وإعلان بعض الجماعات هناك نيتها في إنشاء «إمارة إسلامية» في سيناء وسيطرتها وتهديدها لأمن المواطنين.. ومع ذلك يصر المدافعون عن «السيناريو الاسرائيلي» أن تكون مثل هذه الجماعات الصغيرة مخترقة «باتقان» لصالح الأجهزة الإسرائيلية، حتى لو كان المنفذون مصريين أو عرباً أو مسلمين.. ويذهبون في هذا الصدد الى ما رافق العملية فور تنفيذها من تراشق واساءات وجهت لحماس والفلسطينيين والتيارات الإسلامية المصرية جميعها على صفات التواصل الاجتماعي، وكأن هؤلاء كانوا في انتظار الحدث أو مستعدين- وفق الخيال الاستخباري الاسرائيلي- للاستفادة منه باتجاه «زرع الفتنة»، وضرب الوحدة الوطنية المصرية والتضامن الإسلامي والعربي بين القيادة المصرية الجديدة وبين قادة حماس، خصوصاً بعد عفو الرئيس مرسي عن إسلاميين فلسطينيين مدانين في السجون المصرية، لم يستبعد البعض أن يكون بينهم من شارك في عملية الهجوم على الضباط والجنود المصريين قرب رفح ليلة «17 رمضان»، ذات الرمزية الخاصة في التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية، فهي ذكرى موقعة «بدر الكبرى» التي شكلت تحولاً جوهرياً في مسيرة الدعوة وانتصر فيها المسلمون على المشركين، وكانوا «أذلة»، فهل اختيار التوقيت أيضاً كان من «راس» دهاقنة «الموساد» و«الشاباك» أم من «كراس» الجماعات وذاكرتها التاريخية. ü جدل وسيناريوهات ونظريات متعددة، لا سبيل الى القطع بصحة اي منها قبل العثور على خيط يقود الى وكر المجرمين الحقيقيين، وأظنه سيتطاول حتى بعد الوصول للقتلة والفاعلين المباشرين، كما جرى مع أحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن، حيث لازال الجدل يدور حول الدوافع والتخطيط برغم معرفة الفاعلين وعلاقتهم المباشرة ب«القاعدة»، التي لا يتصور بعض المحللين أنها تملك إمكانات تقنية وفنية بتلك الدقة والكفاءة التي شهدناها في نسف وتدمير برجي التجارة ومبنى البنتاغون.. هو جدلٌ ونظريات لم تستبعد أيضاً دوراً لحزب الله أو إيران في العملية، تنفيذاً للتهديد بنشر شظايا الأزمة السورية في كل المنطقة. ü الرئيس مرسي بعد اجتماعه مساء الأحد بالمجلس العسكري الأعلى ووزير الداخلية، ومدير المخابرات العامة، على هيئة «خلية أزمة» خرج على الشعب في وقت متأخر ليعلن نتائج الاجتماع، وصدور الأوامر بملاحقة المجرمين والقتلة، ولكن أهم من ذلك نشر السيطرة المصرية الأمنية على كامل سيناء، لمنع تكرار مثل تلك الحوادث. ü من المبكر -طبعاً- القول بإن مرسي والأجهزة العسكرية والأمنية المصرية قد قرروا تجاوز ما تقرر في اتفاقية السلام المصرية-الاسرائيلية من سيادة عسكرية متدرجة في سيناء، تبدأ من شرق القناة وفق خريطة تقسم المنطقة الى ثلاثة محاور (أ) و(ب) و(ج) وآخرها هي المنطقة الحدودية التي شهدت الهجوم الأخير والتي لا يسمح فيها إلا بتواجد شرطي «أمن مركزي» بتسليح محدود، فصلته الاتفاقية التي اشتهرت ب«كامب ديفيد» -مقر التوقيع على الاتفاق الاطاري- الذي أبرمت بناء عليه اتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية، وقد نصت الاتفاقية ضمن بنودها على كيفية وشروط تعديلها، ودور المجتمع الدولي ورعاة الاتفاقية في ذلك. ü ومع ذلك يرى بعض المحللين السياسيين، أن المواثيق الدولية وحقوق الدول في سيادتها على أرضها وحدودها الوطنية وأمنها القومي تجبّْ كل اتفاقيات أو معاهدات حال وقوع تهديد فعلي لأمنها وسيادتها على أرضها، كما أشار الى ذلك الأستاذ نبيل زكي المتحدث باسم حزب التجمع المصري، الذي طالب بتعزيز الوضع الأمني في المنطقة، خصوصاً بعد شكاوي اسرائيل المتكررة، مما تصفه ب«الاختراقات الإرهابية» في سيناء، التي تبرر مثل هذه التعزيزات العسكرية والأمنية المصرية. ü نعم، يد مصر مغلولة - بحكم نصوص «كامب ديفيد»- عن تعزيز أمنها وبسط هيبتها على حدودها الشرقية -التي هي الأخطر- وتلك كانت استجابة المرحوم السادات ونظامه لدعاوي الأمن الاسرائيلي ومخاوفها «المصطنعة» ذريعة الاطماع التوسعية، بحيث جاءت الاتفاقية «نيئة» تركت سيناء في «هشاشة أمنية» لم يوضع حتى جدول زمني لنهايتها، فانفتحت الصحراء والحدود للتهريب والجرائم العابرة من كل صوب وصنف، وهيأت مناخاً خصباً للإرهاب وممارسات جماعة الهوس الديني، وكل ما يمكن تصوره.. وفي النهاية لابد أن يعود النيئ الى النار.