من الطرائف التي يرددها المغتربون في بلدان النفط العربي، وتؤكد إحساسهم بتمييز، متوهم أو حقيقي، أن «مواطناً» عربياً التقى وافداً سودانياً وسأله عن اسمه، فأجاب السوداني بأن اسمه «عبيد»، فباغته العربي بالقول «أدري أنك (عبيد).. إلاّ قوللّي إيش اسمك»! والإشارة هنا إلى تصغير (عبْد)، وواضح أنها نكتة مصنوعة لا تخلو من ذكاء واستفادة من قدرات اللغة العربية ومفارقاتها التي تنشأ من تطابق الألفاظ واختلاف المعاني. ü تذكرت نكتة «أدري أنك عبيد» هذه، فور إعلان الحكومة وحزب المؤتمر الوطني عن ترشيح الدكتور كمال عبيد وزير الإعلام الأسبق، ونائب دائرتنا الجغرافية «أركويت» لرئاسة الوفد المفاوض للحركة الشعبية-قطاع الشمال- في أديس أبابا نزولاً عند بعض مطلوبات قرار مجلس الأمن (2046) حول العلاقة بين دولتي شمال السودان وجنوبه وهو قرار أتى، كما هو معلوم تحت الفصل السابع والمادة (41) منه التي تحدد العقوبات في حال الفشل في الاستجابة لمنطوق القرار. فاختيار الدكتور عبيد في حد ذاته كان لافتاً للنظر، لأكثر من سبب، فالرجل لم يعرف «كمفاوض» ضمن وفود الحكومة أو الحزب لا مع الحركة الشعبية ولا مع حركات دارفور ولا غيرها، كما أن خطابه السياسي العام اتصف بالحدة والتشدد، وأكثر ما اشتهر في ذلك الخطاب هو توعده للجنوبيين بعدم توفير أية خدمة لهم بعد حلول الموعد المقرر لرحيلهم ولو تمثلت تلك الخدمة في إعطاء مريضهم «حقنة» دواء. وقد تناول المجتمع والرأي العام وأجهزة الإعلام حينها ذلك التصريح باعتباره أنموذجاً للتطرف اللفظي والجفوة والجفاف العاطفي تجاه أبناء الجنوب الذين لا بد أن يكونوا بجوارنا، بحكم الواقع حاضراً ومستقبلاً حتى وهم يختارون الانفصال. ü وربما كان اختيار «عبيد» لهذه المهمة اختياراً موفقاً «صادف أهله»، كما يقول مقدموا الحفلات، فالحزب الحاكم «نثر كنانته» وتخيّر من بينها أكثر سهامه حدة ونفاذاً وقدرة على إلحاق الأذى ب«قطاع الشمال» فاختار «صاحب الحقنة» لأنه لا يرغب أصلاً في حل أو تفاوض مع ممثلي هذا القطاع الذي كما قال نائب رئيس الجمهورية رئيس القطاع السياسي بالحزب د. الحاج آدم إنهم لا يرغبون في التفاوض مع قطاع الشمال ولا «يعترفون حتى باسمه»، وهو تصريح يؤكد موقف المكتب القيادي مجتمعاً الذي رفض اتفاق 28 يونيو 2011 الإطاري بين نائب رئيس الحزب نافع علي نافع ووالي النيل الأزرق حينها مالك عقار، والذي وضع الأسس لنزع فتيل الحرب من جبال النوبة، وانتهى الأمر بآخره إلى تمرد عقار نفسه بعد نسف الاتفاقية وامتداد الحرب إلى النيل الأزرق وجبال الأنقسنا. ü لم يخيِّب عبيد ظن من اختاروه ل«المهمة»، فذهب إلى أديس أبابا بنفس روح «منع الحقنة»، ولكن هذه المرة لممثلي قطاع الشمال في المفاوضات، ذهب إلى أديس أبابا وعاد ليبلغ أجهزة الإعلام في مؤتمر صحفي بمنبر «سونا» يوم الأحد الماضي بكلام في منتهى الغرابة، ليس أقل غرابة وتنفيراً من «حديث الحقنة»، فقال سعادته: إن وفده انخرط بعد عودته من أديس أبابا في «مشاورات مع الأطراف السياسية المشاركة بولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان وهيئة علماء المسلمين وأئمة المساجد للوصول إلى مواقف موحدة بشأن التفاوض مع قطاع الشمال في جولة المفاوضات القادمة.. طبعاً هي المرة الأولى التي نسمع فيها حديثاً من هذا القبيل، فالمؤتمر الوطني حتى عندما عقد أهم اتفاقية في تاريخ سودان ما بعد الاستقلال «اتفاقية نيفاشا»، لم يأخذ برأي القوى السياسية أو يستشير أهل السودان أو يستفتي أهل الرأي الفقهي من علماء الدين وأئمة المساجد، «إشمعنى» هذه المرة؟! ألم يسمع السيد عبيد فتاوي بعض هؤلاء وخطبهم من على المنابر ب(حرمة) أو ب(تأثيم) التفاوض مع قطاع الشمال لأنه «علماني ويدعو لمشروع السودان المصادم لمشروع الإنقاذ الحضاري والشريعة الإسلامية» كما برر بعضهم. فهل يحتاج السيد عبيد لاستشارة من سمع رأيهم على الملأ أو من على صفحات الصحف السودانية وفي مقدمتها «الزميلة الانتباهة». ü وبرغم توقعه انفراجاً في قضية المنطقتين في حال توقيع اتفاق بين شطري السودان، ولم يستبعد إمكانية الوصول لاتفاق «لوقف العدائيات»، ومع ذلك لم ينس عبيد أن يبلغ مستمعيه حضور المؤتمر الصحفي في «سونا» أن التوقيع على هذا الاتفاق «سيكون مع الوسطاء وليس أي طرف آخر»، وليؤكد «براءته وبراءة» وفده من أي تعاطٍ أو تعامل مباشر مع ممثلي قطاع الشمال وقال «إن الوفد لم يلتق أي طرف في الحركة لأن لديه (موقفاً مبدئياً)، ولم يذهب لأديس أبابا ليكافيء حملة السلاح».. «برافو» هكذا يجب أن يكون التفاوض.. وهكذا بقى عبيد ووفده «عشرة على المباديء»، لكنه أضاف أن وفده «سلم مقترحاته للوسيط الأفريقي الذي سلم بدوره مقترح (الطرف الآخر) - الما بجيب اسمه- ومع ذلك يأمل السيد عبيد ومن اختاروه لرئاسة الوفد بالوصول إلى اتفاق «لوقف العدائيات» مع طرف يتبرأ عن مقابلته أو الدخول في حوار مباشر معه، وبعد كل هذا يتهم ذلك (الطرف الآخر)، الذي يستنكف عن ذكر اسمه، «بعدم الجدية في التوصل إلى حل شامل ينهي الأزمة».. وشكك في قدرتها (الحركة-قطاع الشمال) على فك الارتباط السياسي والعسكري بدولة الجنوب، ذات الدولة التي يعرب في ذات المؤتمر وقبل لحظات عن اعتقاده بأن التوقيع معها سيؤدي إلى «حدوث انفراج في قضية المنطقتين» اللتين يفاوض عنهما قطاع الشمال. أهي مراهنة على أن يبيع «قطاع الجنوب» في الحركة الشعبية «قطاع الشمال»، لتبقى المسألة في النهاية مسألة «بيع وشراء ومقايضة» وليست حلولاً واتفاقات تتعامل مع جذور المشكلات وقضايا الناس الحقيقية وحقوقهم المشروعة، غض النظر عمن يتصدى لتلك الحقوق وانتماءاته الجهوية أو العرقية أو معتقداته السياسية فكما يردد بعضهم -جهلاً أو استعباطاً- أن عرمان أو غيره لا علاقة لهم بالمنطقتين محل النزاع وبالتالي لا يحق له أو لهم التفاوض عنهما حتى لو كان أميناً عاماً لذلك الحزب الذي يحمل السلاح في مواجهة الدولة، فيبدو أن الجهوية والعنصرية المنتنة قد عشعشت في الرؤوس حتى أنست الجميع أن «السودان الفضل» يجب أن يكون موحداً بعد أن خبرنا نتائج التشظي والانفصال وينسون في الوقت ذاته أن «عبيد» لا ينتمي لأي من المنطقتين وليس عرمان أو وليد حامد وحدهما. ü نعم اختار «الوطني» د.كمال عبيد، بمبدأ أن «المحرش ما بكاتل» وعبيد لا يحتاج لتحريش فهو -الحمد لله جاهز- وعلى أهبة الاستعداد كما كان دائماً قبل وبعد «مساخة الحقنة الممنوعة»، فهل يعتقد الوطني أن حل المشكلة مع الجنوب ستحل «أوتوماتيكياً» الأزمة والحروبات الدائرة في النيل الأزرق ودارفور دون أي اعتبار لاتفاق سياسي أو توافق وطني بين أطراف النزاع في الشمال يخاطب جذور الأزمة.. إنه فهم سياسي عجيب.. ولا نزيد!