كتب أستاذنا إسحق الحلنقي في زاويته الحلوة «عسل شرقاوي» بأخيرة صحيفة فنون: «أذكر ذات مساء اتصل بي العملاق الراحل محمد وردي يطلب مني استكمال أغنية كتب مطلعها ولكنه لم يقدر على استكمال بقية مقاطعها الشعرية، وعندما أحس بأنني ترددت قليلاً في الإجابة عليه خاطبني قائلا: «أرجوأن ننسى ذلك الزعل القديم الذي كان.. فنحن بينا عصافير الخريف وأخواتها أعز الناس ويا راجياني وعشرة لا ينكرها عزيز.. وأضاف: أغني لهذا الشعب السوداني العظيم أمنحه اتكاءة من الأغاني ليستريح عليها.. فدعنا نتقاسم هذا الشرف.. بعدها بساعات أكملت له بقيه الأغنية فكانت «نجفة».. انتهى كلام أستاذنا. أعادت لي هذه الكلمات ذكرى محاولات الفنان محمد وردي في أن أشترك معه في صناعة الغناء.. أي أن أكون حلنقي جديد.. بعد أن حل الحلنقي محل إسماعيل حسن.. فمعهما كان وردي يصنع أغانيه.. يكتب المطلع هو يسميه «المذهب».. ويكمل الشاعر النص الذي انبنى طبعاً على لحن صنعه وردي.. عجبت لهذه الخاصية.. إذ لم أكن قد دخلت معمل صناعة الأغنية على هذا النحو الاحترافي الممعن في التجويد.. وأعتقد أن الاحترافية العالية هنا توازي الصدق الذي نبحث عنه بلا طائل كمبرر لتأليف الأغنية.. فالصدق الفني خاصية تكتسبها وتسير معك أينما اتجهت.. الشاهد أن الموسيقار وردي طلب مني إكمال أغنية «نجفة» التي تحدث عنها أستاذنا الحلنقي.. في البدء اعتذرت.. ولما ألح وردي قلت له: خلاص أعطني فرصة لأتصالح مع الفكرة.. قال كم تريد من الزمن حتى تكملها.. فقلت له: ثلاثة أشهر.. فقال لي: ليه ثلاثه شهور ده لو الحلنقي كان عملها في يومين تلاته.. قلت له: خلاص خلي يكملها ليك الحلنقي.. فقال لي: لكن الحلنقي مشاكلني ومحاربني.. قلت له: المشكلة شنو؟.. صالح الحلنقي.. فقال لي: كيف؟.. قلت له: إنتو متحاربين في ورثة.. ما في كلام ساكت.. فقال لي: طيب.. واتصل بالحلنقي.. وتم الصلح وكان وحسب كلام الحلنقي السابق.. فإن الأمر لم يأخذ سوى ساعات واكتملت الأغنية.. مرت الأيام وللمرة الثانية طلب مني وردي ملء أغنية يا فارسنا وحارسنا بكلام مغاير.. والمعروف أن الأغنية كانت لمايو.. وبعد أخذ ورد قلت له: الوحيد الذي يمكن أن يفعل ذلك هو شاعرها محجوب شريف.. وللمرة الثانية قال لي: لكن محجوب مقاطعني.. وسعينا للصلح بينهما لكن محجوب رفض الفكرة.. ومرت الأيام.. وللمرة الثالثة أسمعني بداية أغنية نهر العسل وقال لي المرة دي أنت حاتكملها..حاتكملها وأنا متأكد إنك حاتعملها صاح وقد كان.. وأخذ يتابعني بالتلفون.. ونكتب الكوبليه الأول ونعيد ونحذف ونضيف حتى اكتملت الأغنية وغناها مرة واحدة في حفل جماهيري.. وكان مذهب وردي الذي عدلت فيه كلمة أو كلمتين يقول: يا نهر العسل يا شلال حنان داسين في الحنايا ريدتك من زمان ورينا الطريقة وادينا الأمان وواصلت : يا نهر العسل أهديت السفاين شارات الأماني وأدهشت المداين .. بان حلم الوصول .. واتفشت غباين شوف حتى الضفاف لي حسنك تعاين وإلى آخر القصيدة.. رحل وردي ولم يكتمل مشروعي معه كصانع ماهر لأغانيه على نحو ما كان يفعل إسماعيل حسن والحلنقي ولكن.. وآه من لكن هذه..