تذكرت فيروز وهي تشدو برائعة ملك الرومانسية جبران خليل جبران «المواكب» التي يتساءل فيها:«هل تحممت بعطر أو تنشفت بنور؟» وأنا أتابع برنامج قناة الشروق«محطة وسطى» الذي استضاف الليلة قبل الماضية مدير الهيئة الإشرافية لنظافة الخرطوم المهندس مالك بشير. كانت مقدمة البرنامج منفعلة بما يحدث حولها وتحدثت بأسى وحزن عميق عن واقع الحال الذي تردت إليه أحوال «العاصمة القومية» بمدنها الثلاث، وعزز التقرير الذي أعدته القناة عبر الطواف على أحياء العاصمة وأسواقها وشوارعها من الشعور بالكارثة داخل الاستديو وبلا شك ولدى المشاهدين الذين تابعوا «المحطة» إلا شخص واحد جلس بهدوء داخل الاستديو «كضيف شرف» وكأن الأمر لا يعنيه في قليل أو كثير هو السيد مدير الهيئة الإشرافية لنظافة الخرطوم، لم تبدُ عليه أي درجة من القلق وملامحه توحي بطمأنينة غريبة، ويجعلك أنت المشاهد أو المعايش لواقع الحال تتساءل هل أنت في «حلم أم علم»؟.. هل خادعتك عيونك في كل هذا الذي تشاهده من حولك وتعثرت خطاك بلا سبب أو منطق في أكوام نفايات وأوحال «متخيلة» وأن أنفك مارست نفس الخدعة، فعوضاً عن عطر الأزاهير العابق في كل شوارع المدينة وحدائقها الغناء نقلت إلى دماغك روائح نتنة ومقززة عبر رياح قادمة من أماكن خارج حدود العاصمة أو البلاد؟! بكل برود أعصاب، وبعد مشاهدة التقرير تحدث السيد مالك إلى المشاهدين ومقدمة البرنامج بأن ما شاهدوه من «مناظر» هو من «السوق المركزي» في الخرطوم، وتجاهل لفت المذيعة لنظره بأن التقرير طوّف على كل أنحاء العاصمة، وعزا ذلك لثلاثة أسباب: «إضراب» عمال النظافة و«الخريف» و«الرسوم» القليلة التي تتقاضاها الهيئة، والتي قال إنها تشكل 25% فقط من تكلفة الخدمة. أصرَّ مدير الهيئة الإشرافية على تجاهل كل الحقائق والوقائع والمعلومات التي حملتها له اتصالات سكان الخرطوم من أبروف وسوبا وشرق النيل ومن كل مكان في العاصمة القومية، وكاد أن يقول كل ذلك «مجرد أكاذيب»، وقال عربات النظافة تنقل النفايات في مواعيدها (3 مرات أسبوعياً) من الأحياء و«يومياً» من الأسواق إلا ما ندر، وألقى بالاتهام على «الأكياس» المستخدمة بأنها لا تناسب المواصفات المطلوبة، وهي تتسبب في ما نشاهده «أحياناً» من أوساخ!.. وأنهم وبتوجيه من الوالي يعملون الآن على توزيع «الأكياس المطلوبة»- 12 كيساً في الشهر لكل عائلة- وكأنه يقول إنه بتعميم هذه الأكياس التي لم نرها، ستعم النظافة وستعود الخرطوم مدينة نظيفة وجميلة تستحم بعطر وتتنشف بنور! لم يتوقف السيد مدير هيئة النظافة كثيراً عند «الآليات» المطلوبة لمقابلة الحد الأدنى من النظافة، لم يقل مثلاً إن هناك خطة لتعميم الحاويات، ولم يرَ عيباً في الأداء والتنظيم والأسلوب المتبع الآن بإلتقاط العربات «المستعجلة» والعمال غير المدربين لأكياس وجوالات النفايات من أمام البيوت وأيدي المواطنين، يكبون نصفها في جوف العربة والنصف الآخر في الشوارع أو بوابات البيوت. لم يقل أو يفكر مثلاً في أقفاص أو حاويات قرب البيوت تتعامل معها عربات النظافة بشكل دائم وبدون تدخل المواطنين، بدلاً من العربة المسرعة و«الصفارة» التي تنادي على الناس «هيا العربة جات طلعوا الأكياس والشوالات»، فبالنسبة للسيد مدير النظافة ذلك هو «الأسلوب الأمثل» لجمع النفايات، بالرغم من حديثه عن «تصنيف النفايات».. تصنيف إيه وانت لا تملك قفصاً أو حاوية إلا ما ندر وفي بعض الشوارع البعيدة عن مداخل البيوت والأحياء؟! شارك السيد مدير النظافة في برنامج محطة وسطى زميله د. صلاح الدين عبد الرازق مدير الصحة بولاية الخرطوم، الذي أكد هو الآخر، وإن بدرجة أقل، أن كل شيء عال العال وبشر المواطنين بأن «العمل جارٍ» وبدأ بالفعل في محاربة البعوض والذباب وأن حملة «أرضية وجوية» «ستقضي عما قريب» على البعوض والذباب» في كل أطواره «الوراثية والطائرة» وما عليهم إلا الانتظار، وطمأن المشاهدين بأن البعوض الذي يحوم حولهم أو يقلق منامهم لا خطر منه، إذ أنه ليس من نوع «الأنوفليس» الناقل للملاريا، وأن ما يقوم به هو مجرد «هظار خشن» لا تترتب عليه أضرار حقيقية، وأن «عاصمتهم الجميلة» لم تزداد فيها نسبة الإصابة بالملاريا منذ العام (2002) بحسب الإحصاءات وأن الأوضاع الصحية مستقرة طوال العقد الماضي، فلله الحمد والمنة. بمعنى آخر، نحن نعيش في عاصمة «نظيفة» و«صحية» و«أنيقة»، شوارعها سالكة ومخططة ومضاءة باتقان ومجاريها تلتهم ما يتساقط من أمطار في لحظات، وأي منا «ينكسف» أن يلقي بمنديل ورق في الشارع أو في الأسواق، بما في ذلك السوق المركزي للخضار واللحوم.. إنها عاصمة تستحم بعطر وتتنشف بنور. ليس غريباً أن تكون مثل هذه الصورة في أذهان مسؤولي الصحة والنظافة في بلادنا عن واقع الحال في مدنهم وعواصمهم، فنحن لسنا استثناء في أهم مظاهر المرحلة في حياة الحكام والمسؤولين العرب والأفارقة، وهي مرحلة تقوم على «إنكار الواقع» حتى الموت.. ألم ينكر القذافي واقع أن في بلاده ثورة تريد أن تقتلع نظامه.. ألم يفعل ذلك حسني مبارك الذي كان يقول لمن شكلوا برلماناً موازياً لبرلمانه المزور «خليهم اتسلوا» حتى دهمته الثورة وقدمته ممداً على سرير إلى المحاكمة.. ألم يفعل بشار الشيء ذاته ولا يزال؟.. إنكار الواقع سمة المرحلة، في السياسة أو في الاقتصاد أو في خدمات النظافة والصحة، فلا تثريب على مسؤولي النظافة والصحة في بلادنا إن أنكروا كل شيء ورأوا في عاصمتنا مدينة تستحم بعطر وتتنشف بنور.. فاعطني النايَ وغني!