لم أجد في كل ما قرأت من تاريخ الحرب العالمية الثانية، وأدبيات الحرب النووية أبلغ من شهادة تلك السيدة اليابانية الناجية من قنبلة هيروشيما، التي احتفلت اليابان والعالم بذكراها أوائل الأسبوع الماضي (السبت). تلك السيدة التي نجت بمعجزة من تلك المذبحة، نجاة ربما هيأها لها الله بعد كل ما أصابها لتكون شاهدة ومُبلغة عن هول الموت بسعير القصف الذري، قالت السيدة: كنت حينها صبية ابنة 12 ربيعاً، كان صباح ذلك اليوم -6 أغسطس 1945- صحواً.. فجأة رأيت صاعقة من البرق أو ما يُشبه عشرات الآلاف من الصواعق تومض في لحظة واحدة.. ثم دوّى انفجارٌ هائل.. خَفَت كل ذلك الضوء الباهر فجأة، فساد المكان ظلام تام. وعندما أفقتُ بعد الصدمة الأولى وجدت شعري ذابلاً ومحترقاً، ملابسي ممزقة، وجلدي يتساقط عن جسدي، لحمي ظاهر وعظامي مكشوفة. والجميع من حولي كانوا يعانون من حروق فظيعة.. كانوا يبكون ويصرخون ويسيرون منكبين على وجوههم وكأنهم طابور من الأشباح. غطى مدينتنا ظلام دامس بعد أن كانت قبل قليل تعجُّ بالحياة مع ضوء الصباح.. الحقول والحدائق والأشجار والأزاهير احترقت، فلم يعد ثمة ما يذكِّرنا بالحياة! هكذا حكت تلك السيدة اليابانية التي لا تزال تعيش، لوسائل الإعلام بعد أن أجرت 15 عملية تجميل وإصلاح على وجهها فقط، حتى تستطيع مواجهة الحياة والناس ومع ذلك تحمد الله وتقول «إني محظوظة لمجرد بقائي على قيد الحياة». ما دعاني للعودة للاهتمام بذكرى هيروشيما هو خبرٌ مهم تناقلته الإذاعات والفضائيات الدولية، هو أنّ السفير الأمريكي لدى طوكيو سيشارك -للمرة الأولى- في الذكرى الخامسة والستين لهيروشيما التي ستحييها اليابان في يوم السادس من أغسطس بدءاً من الساعة الثامنة والربع صباحاً لحظة إلقاء القاذفة الأمريكية «اينولا جاي» من طراز «بي-29» لأول قنبلة نووية على مدينة مأهولة بالسكان. وهي مشاركة تنم عن رغبة «مخاتلة» في «الاعتذار» دون إفصاح مباشر، حيث يقوم السفير -بحسب الخبر- بوضع إكليل من الزهور على موقع تفجير القنبلة الذي تحول إلى حديقة للسلام، في وقت لا تزال تطالب فيه اليابان باعتذارٍ أمريكي رسمي على ذلك العدوان والفعل الإجرامي غير المسبوق وغير الملحوق إلا من قبل الولاياتالمتحدة نفسها بما كررته بعد ثلاثة أيام فقط في مدينة يابانية أخرى هي ناجازاكي، التي اقترن اسمها منذ ذلك التاريخ برفيقتها هيروشيما كأبرز شاهدين على بربرية القوة الأمريكية. تلك البربرية العابثة والطائشة التي لا تضع وزناً ولا قيمة لحياة البشر أفراداً أو جماعات في سبيل إنجاز أهدافها وغايتها، حيث تصبح «الغاية تبرر الوسيلة» مهما كان قبحها أو لا إنسانيتها، بربرية لم تجد حرجاً في أن تقتل وهي تسخر وتضحك وتطلق النكات تماماً كما يحدث في أفلام «رعاة البقر»، فقد أطلقوا في ذلك الحين على قنبلة هيروشيما اسم «الولد الصغير»-Little Boy- وعلى تلك التي القوها فوق ناجازاكي «الرجل السمين»-Fat Man-. سلوك الولاياتالمتحدة خلال تلك الحرب العالمية الثانية، التي لم تكن جزءاً منها ابتداءاً ولم تكن تهدد أراضيها البعيدة عبر المحيطات والبحار كان سلوكاً غريباً، فهي قد هبت لنجدة «الحلفاء» لكنها ما لبثت أن أصبحت «ست الموضوع»، ففي حربها وغاراتها على اليابان -التي كانت جزءاً من دول «المحور» النازي الفاشي الذي تقوده المانيا وإيطاليا في مواجهة انجلترا وفرنسا والحلفاء- سبق لها أن القت بمنشورات تحذر المدنيين من الغارات الجوية على 12 مدينة يابانية أخرى، إلا أنه لم يتم تحذير سكان هيروشيما أو ناجازاكي من أن غارة جوية ستطال المدينتين، ناهيك عن قصف بالقنابل الذرية، ما يوحي بنية القصد والترصد وراء ذلك الفعل الزنيم، فالمقصود ربما كان هو «التجربة الحية» ورؤية نتائجها على البشر والتجمعات السكانية والعمرانية في المدن. وبالفعل جاءت الإحصاءات من أرض الواقعة لتؤكد فظاعة الفعل،مات على الفور أكثر من 70 الف شخص في هيروشيما، بينما تراوح عدد القتلى في ناجازاكي بين 40 الفاً و75 الفاً. هذا غير أولئك الذين قضوا نحبهم في أوقات لاحقة وعلى فترات مختلفة جراء الإصابات والتلوث البيئي والاشعاعات والتشوهات التي تلحق بالأجنة. ففي احتفال السبت الماضي (6 أغسطس) أضيف (5375) اسماً إلى قائمة ضحايا هيروشيما ليصبح العدد الإجمالي (242.437) على مدينة كان مجموع سكانها لحظة الغارة 350 الفاً، «تقول لي إبادة جماعية برضو»! رئيس الوزراء الياباني كيروزومي تصدر احتفالات هيروشيما بذكرى القصف النووي وتعهد أن يلتزم بمباديء دستور اليابان المسالم والالتزام بمنع الأسلحة النووية وقال «أنا واثق بأن هيروشيما ستبقى رمزاً للسلام» وكأنه يستذكر قول شاعرنا -أظنه المجذوب- بأن «الخير في الشر انطوى»، والاحتفال حضره هذه المرة ممثلون من كل أنحاء العالم، بينهم الأمين العام للأمم المتحدة الحالي والسابق كوفي عنان الذي أوفد من يمثله ويقرأ رسالة بالنيابة عنه، كما حضره السفيرالفرنسي وجميع السفراء المعتمدين في طوكيو، وناشطون بيئيون من أجل السلام وحقوق الإنسان. أما واشنطن، التي لم تعتذر عن فعلتها تلك حتى الآن، وتلاحق الجميع و«طايحة في العالم» لمنعهم من الحصول على الأسلحة والطاقة النووية، فهي كانت ولا زالت ترى -رسمياً- بأن ما فعلته بهيروشيما وناجازاكي سرّع بانهاء الحرب العالمية الثانية ووفر ملايين القتلى على البشرية في تلك الحرب، بينما يرى آخرون -أكثر موضوعية-أن هذا مجرد تبرير غير منطقي، وأن الحرب كانت ستضع أوزارها ولن تطول أكثر مما طالت بعد هزيمة دول المحور، وأن ما قامت به أمريكا ليس سوى «عرض عضلات» أرادت به أن تلقي الرعب في نفوس الآخرين وتفرض هيبتها وتبدأ سيطرتها على العالم، تلك السيطرة والهيمنة المستمرة حتى اليوم.