واليوم نتوقف عن النواح.. نتوقف تماماً عن تعذيب النفس وجلد الذات.. نكفكف دموعنا الهاطلة كمطر العينة.. نمسح بأكف ناعمة وحانية وحنينة ذرات من الغبار قد علقت بوجه الوطن الجميل البديع الأنيق والجميل.. ليشع مرةً أخرى مضيئاً كمصابيح وكهارب المينا.. كالقمر عند إكتمال الهلال.. اليوم أحبتي.. ننظر في فرحٍ ونتأمل في سعادةٍ النصف الممتليء من الكوب.. فقد أنفقنا أبهى وأزهى وأنضر أيامنا.. بل أفنينا عمرنا وشعابنا وعيوننا «مسمرة» على النصف الفارغ من الكوب.. لم نترك في ذاك النصف الخاوي من «الكباية» بوصة واحدة خالية من ضربةٍ من حرف ولا طعنةٍ من كلمة.. وتظل الكباية بنصفها الفارغ.. تتبدى أمامنا متحدية ولكن إن شاء الله إلى حين.. اليوم «إجازة» من البكاء على وطن أكثر من نصف شعبه من الفقراء وثلث شعبه من المرهقين.. بفضل سياسات خاطئة.. أنفقنا أنهراً من المداد وأطناناً من الحروف.. لتعريتها ورفضها وتسليط «بطاريات» مصابيحنا في وجهها.. ولأنه وطن عظيم.. ولأن أمته خير أمة أخرجت للناس.. ولأن قيم الخير راكزة فيه ركوز الجبال.. دعونا اليوم نحدثكم عن بعض اللمحات المشرقة.. والتي تشع من أنفس محتشدة بالخير والصدق والإبهار، حدثني بالأمس أحد الأصدقاء.. وأنفاسه تتقطع.. وعيونه تكاد تخرج بل تقفز من محاجرها دهشةً وعجباً.. ليقول.. تصدق يا صديقي إني بالأمس ذهبت إلى صيدلية في الحاج يوسف.. أطلب نوعاً محدداً من الدواء.. كنت أعلم أن ثمنه قد تضاعف بعد عاصفة إرتفاع الدولار الهائلة المتوحشة.. فاجئتني «الصيدلانية» وكانت هي القائمة على الصيدلية بأن ثمن ذاك الدواء هو نفس ثمنه قبل «نزول» الثمن الجديد.. بدأت أشك في أنه نفس الدواء.. وعندما تأكدت من أنه نفس الدواء.. سألت الدكتورة الصيدلانية قائلاً ولكني قد اشتريته قبل أسبوع واحد من الآن بثمن أكثر من ذلك بكثير.. هنا قالت لي وفي نبل إنساني.. وفي أمانةٍ تدفقت مداعمي حتى سالت جداولاً.. إننا نبيع بالسعر القديم لأنه ما زال عندنا كمية من الدواء بالسعر القديم.. هنا.. قلت سراً وجهراً.. الحمد لله إنه ما زال في الوطن مثل هذه.. وأشرق قلبي بالسَّعادة.. وأشرقت عيوني بالإبتسام.. وصديق آخر.. يحدثني بالأمس.. كيف أنه قد ذهب مع أحد أفراد أسرته نشداً للعلاج في عاصمة عربية.. وكان العلاج لابد من جراحة معقدة.. ذهب مع مريضه إلى ذاك المستشفى المتخصص.. وهناك أُخطر بتكاليف الجراحة.. وكانت مبلغاً مهولاً، وكان محدثي على أتم الإستعداد لدفع المبلغ.. وتصادف أن الطبيب الذي سوف يجري هذه «العملية» جراحاً سودانياً شهيراً وماهراً.. يقيم ويعمل في أعظم المشافي الأوربية.. وكان هذا الجراح «البروف» يأتي إلى تلك العاصمة العربية ليجري الجراحات الدقيقة والمعقدة على نظام التعاقد هنا، ومن حسن محدثي إن الجراح سأل مرافق المريض عن الذي أبلغته به إدارة المستشفى.. علم أن المبلغ كان هائلاً وبالعملة الأجنبية طبعاً.. هنا قال لمحدثي.. أسمع.. أنا الذي سوف يجري هذه العملية.. ونصيحتي لك أن تعود بمريضك الآن إلى السودان.. لأنني سوف أكون بالسودان بعد شهرين من الآن وسأجري العملية ضمن عمليات هناك في جدول تعاقدي وزيارتي.. وعمل محدثي بنصيحة ذاك الطبيب.. وفعلاً جاء الجراح إلى السودان وأجرى العملية، والتي كللت بالنجاح.. بعد أن وفر مبلغاً كبيراً لسودانيين لا يعرفهم ولا تربطه بهم صلة غير رباط الوطن البديع.. نعم إن الوطن ما زال بخير وما زال شعبه بألف خير..