الأخ الكريم صاحب عمود إضاءات طه النعمان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لقد استوقفتني عبارات في ردكم على الأفادات التي أدلى بها ثلاثة من رموز الإسلام السياسي- كما سميتهم في مقالتكم- على رأيهم في تعيين الرئيس المصري محمد مرسي لقبطي وامرأة في منصب (مساعد الرئيس). فالعبارة الأولى التي استوقفتني هي آخر عبارة ختمتم بها مقالتكم، وهي (الله أعلم) مما يعني أنه لم تحتكر الحقيقة وجعلت الباب مفتوحاً لمن أراد أن يلج في الحديث عن هذا الموضوع. أما العبارة الثانية وهي: (الدولة الدينية)، وهذه العبارة كثيراً ما يستخدمها العلمانيون حينما يريدون أن يهاجموا الدولة الإسلامية، ولكنهم يخشون رد فعل الناس فيلجأون لتلك العبارة، ومن المعلوم أنه لا توجد دولة دينية في الإسلام بالمعنى الغربي؛ والتي هي دولة يأخذ الحاكم تفويضاً من الله- حسب زعمهم- بالحكم في الأرض، وأعماله كلها عبارة عن إرادة الله في الأرض. أما في الإسلام فلا يوجد دولة بهذا المعني، نعم في الإسلام دولة، وهي دولة إسلامية يبايع فيها الحاكم على أن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يخطيء ويصيب، ويُحاسب على أخطائه، وبهذا المعنى يكون إستخدام كلمة دولة دينية هو إستخدام غير نزيه، ومن الأدق أن تسمى المسائل بمسمياتها حتى لا يقع التضليل أو اللبس للقاريء. أما العبارة الثالثة، فهي كلمة الواقعية، والتي وردت في المقالة بصيغة المدح في سياق الرد على الدكتور كشكش (لأنه أكثر واقعية من رفيقيه). إن كلمة الواقعية في المصطلح السياسي لها مدلولين أحدهما أن تفهم الواقع فهماً دقيقاً، ومن ثم تحدد الأساليب والوسائل التي تتناسب مع ذلك الواقع، ولا تقف عند فهمك القديم للواقع، ولا تجمد على الأساليب والوسائل القديمة، بل لابد من الديناميكية في التفكير حتى يكون هناك نوع من الإبداع والإبتكار في الأساليب والوسائل، وهذا لا يعني أن تغير حكمك على الواقع بتغير الظروف والأحوال المحيطة به، فالحق يظل حقاً مهما كان بعيد المنال وان كان البون بيننا وبين الوصول إليه شاسعاً والمرتقى إليه صعباً، والباطل يظل باطلاً مهما كانت قوته وانتشاره وهيمنته.ولنأخذ مثالاً على هذا الفهم للواقعية: موقف أمريكا من الاتحاد السوفيتي، فهي أدركت أن الاتحاد السوفيتي دولة قوية ولها وجود دولي، كما أدركت أن النظام القائم في الاتحاد السوفيتي هو نظام شيوعي معاد للرأسمالية، بل إنه يعمل على هدم النظام الرأسمالي وإزالته عن الوجود، فإن أمريكا لم تفكر يوماً بأن يتعايش المبدأ الرأسمالي مع الشيوعي جنباً إلى جنب، بالرغم من انتشار الشيوعية في عدد كبير من البلاد، وبالرغم من أن الاتحاد السوفيتي صار يملك من القوة ما يستطيع أن يزيل به أوروبا عن الوجود، ويهدد أمريكا في عقر دارها، وقد كان إنتشار الفكر الشيوعي حتى داخل الدول الرأسمالية، وقيام أحزاب اشتراكية في هذه الدول مصدر إزعاج وقلق حقيقي ليس لأمريكا وحدها بل للنظام الرأسمالي وجميع الدول التي تتبناه. إن هذا الواقع لم يجعل أمريكا تزعن له وتعدل في بعض جوانب النظام الرأسمالي لتتكيف مع الواقع الجديد، بل وضع الساسة والمفكرون والإستراتيجيون الغربيون وبخاصة الأمريكيون تصوراً لكيفية القضاء على هذا الخطر، فدخلوا في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء والاتحاد السوفيتي جزءاً من ذلك التحالف. وبعد نهاية الحرب كانت الخطة هي الدخول في سباق تسلح يفضي إلى إنهاك الاتحاد السوفيتي، ثم كانت المرحلة اللاحقة هي الدخول في تحالف من نوع آخر مع الاتحاد السوفيتي وقد أفضى إلى تقاسم النفوذ بينهما في ذلك الإتفاق المشهور بين كنيدي وخروتشوف عام 1961م، وأظهر هذا التقاسم ان الاتحاد السوفيتي دولة امبريالية مثله مثل الدول الرأسمالية تماماً، مما جعل الدول التي كانت تحت نفوذه مثل بولندا وتشيكو سلوفاكيا والمجر تتململ وتظهر السخط من الهيمنة السوفيتية مما اضطرها للقيام بأعمال عسكرية ضد هذه الدول، وقد زادها هذا التدخل نفوراً ودفع بدول أخرى لمزيد من العصيان. ولما أحست أمريكا أن قبضة الإتحاد السوفيتي ضعفت رجعت إلى أسلوب العداء المكشوف معه فأعلنتها حرباً شاملة استخدمت جميع أساليب الحرب الإقتصادية والسياسية والاعلامية والايدولوجية ما عدا الأسلوب العسكري والذي منعها منه ما يملكه الاتحاد الاتحاد السوفيتي من قوة نووية رادعة، وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى إعلان نهاية الاتحاد السوفيتي عام 1991 نعم إن أمريكا بدلت في خططها وأساليبها حسب ما يقتضيه الواقع، ولكن لم تبدل رأيها في أن النظام الشيوعي فاسد وخطر ولم تبدل هدفها في وجوب القضاء عليه. هذا حال الدول والأحزاب والأشخاص المبدئيين، فالذي يحدد الصواب والخطأ عندهم والذي يحدد ما يجب التمسك به وما يُمكن التخلي عنه وما هو داخل في مساحة المناورة وما هو خارجها هو المبدأ؛ تلك الفكرة التي آمنوا بها واعتقدوا في صحتها وعلى أساسها يحددون جميع مواقفهم، ومع ذلك يتعاملون مع الواقع ولكن لجعله يسير وفق ما اعتقدوا بصحته لا أن يكيفوا مواقفهم مع الواقع، ولا يأبهون إلى الجهد الذي يجب أن يبذل، ولا ينظرون إلى المدى الزمني الذي يحتاجون إليه. فأمريكا لم تفكر في التكيف مع الفكر الشيوعي ولا التعايش معه، بل كانت نظرتها مبدئية عقائدية بحيث يجب القضاء على الشيوعية واستئصالها من جذورها. أما المدلول الآخر للواقعية وهو التعايش مع الواقع والتكيف معه ثم البحث عن الحلول للمشاكل وفق ما يسمح به الواقع، وهو ما يسمى بالتدجين؛ أي أن نجعل الواقع مصدراً للتفكير فنأخذ منه حلولنا ولا نجعله موضعاً للتفكير فنعالج الواقع وفق أفكارنا ومعتقداتنا، وأبلغ أنموذج للتكيف مع الواقع وجعله مصدراً لحلول المشاكل تلك المقولة التي قال بها صائب عريقات حينما سُئِلَ عن مفاوضات أوسلو أنكم أعطيتم كل شيء ولم تأخذوا أي شيء قال: (إن سقف المفاوضات كان في الأصل منخفضاً)- فلم تكن له خيارات إلا تحت هذا السقف المنخفض، فإذن لماذا دخل المفاوضون أصلاً تحت ذلك السقف المنخفض؟ فالذي حدد موقف صائب عريقات ورفاقه في المفاوضات هو التفكير الواقعي؛ أي الواقعية والتي أوصلت القضية الفلسطينية من لاءات الخرطوم الثلاثة (لا تفاوض- لا تطبيع- لا استسلام) إلى هذا الموقف المخزي الذي تمثل في الطلب من اسرائيل أن تعامل الأسرى الفلسطينيين معاملة كريمة تتفق مع حقوق الإنسان.. يا سبحان اللَّه! وإذا أخذنا السودان أنموذجاً آخر للواقعية؛ فلقد خرج أهل السودان إبان حكم عبود في مظاهرات حاشدة يرفضون الفدرالية، ثم توالت عليهم الضغوط فأعطى جعفر النميري جنوب السودان، والنيل الأزرق، ومن قبلهم دارفور، ورفضت الحكومة أن تتفاوض مع متمردي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وقالت إن إتفاقية نيفاشا عالجت المشكلة واعتبرت أن هذا الأمر خطاً أحمر لا يمكن الاقتراب منه. وبالأمس القريب يخرج علينا والي جنوب كردفان ويقول «إن كان التفاوض مع المتمردين يجلب السلام فمرحباً بالتفاوض حتى وان كان المفاوضون عبد العزيز الحلو ومالك عقار».. وهكذا دواليك إلى أن يعطوهم حق تقرير المصير وذلك كله بفضل الواقعية.وربطاً لهذا الموضوع بموضوع الرئيس مرسي (موضوع المقالة)، فإذا سار الرئيس مرسي على نفس النهج! فسوف يكون مصيره مصير غيره، وها هم الأقباط بمصر يتظاهرون مطالبين بحقوق خاصة بهم والدول الغربية تدعمهم فهولندا أعطتهم حق اللجوء الدِّيني. إن فكرة الواقعية هذه يمكن أن تدفع صاحبها للتخلي عن كل شيء طالما أن الواقع المفروض هو مصدر التفكير. ألم يتخل لاعبو كرة القدم من أبناء المسلمين عن صلاة المغرب في المباراة التي أجريت بين فريقي (المريخ وأهلي شندي) في منافسات الكونفدرالية الافريقية، حينما رفض الاتحاد تغيير موعد المباراة وأصر على قيامها في موعد صلاة المغرب، ألم نعص أمر الله سبحانه القائل: «إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً». فأطعنا إتحاد الكرة وعصينا الله سبحانه، وبدأ البحث عن المبررات لهذا السلوك المشين! نعم يجب أن تكون الدولة دولة مبدئية، فتأخذ معالجاتها لكافة القضايا التي تجابهها من المصدر الذي تعتقد بصحته، وكذلك يجب على الحزب أن يكون حزباً مبدئياً يأخذ جميع تصوراته مما يعتقد بصحته، كما يجب على الفرد أن يكون مبدئياً، يبني كل سلوكه على ما يعتقد بصحته، فتكون الحياة كلها مبنية على فكرة صحيحة. وبما أننا مسلمون، فالعقيدة الإسلامية هي ما يجب أن نبني عليها علاقاتنا في الحياة كلها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته المهندس/ حسب الله النور سليمان